كل طرق السفر وقت العودة تكون مشفوعة بالتعب والذكريات واللهفة إلى أماكن الاستقرار والوجود الفعلي, غير إن طريق الحسين في الذهاب والعودة له اعتبارات أخرى.. لو نقلنا صورة مُتخيلة عن شخصٍ يقف على أحد أرصفة شوارع مدينة كربلاء المقدسة وهو يشاهد السيارات المُحمّلة بلوازم الخدمة في فترة الزيارة الأربعينيةِ تعود بأهلها إلى محافظات العراق المختلفة بعد انقضاء أيام الخدمة التي رسمت ملامح العطاء المستوحاة من لوحة الطف الخالدة, ويسمع بمعية مكبرات الصوت هتافاتهم المُبكية وهم يشكرون أهل الديار على حسن الاستضافة بصوت يملؤه الشجن المسافر وكأن لسان حالهم (ليت كل الزمان أربعينا), ستنصرف ذاكرته حتما لطريق سفر السبايا المحفوف بالمشقة والفقد.

انعكاسات الصور والتداخل الأسطوري بين ما حدث في ظهيرة يوم عاشوراء وما تلاها وبين ما يجري اليوم على أرض الواقع بتفاصيل قد ينظر لها العالم بإعجاب أو استغراب ما هي إلا حقيقة ومصداق على إن الانتصار بالدم يمتد ويتدفق لتغذية أجيال متعاقبة, ليرفدهم بما يكفي من قيم التعبير عن العرفان لشخصية الحسين العالمية, فطرق العودة لا تقتصر على الشوارع, بل تزدحم المطارات بالعائدين للديار وهم يلمحون عقب إقلاعهم بذهول تلك البقعة بقبتيها الذهبيتين مع ذاكرة عصية على نسيان تلك الأيام التي تتساوى فيها المراتب ويتسارع فيها الناس بمنافسة لا نظير لها على تقديم الخدمة بهمة وهامة عالية تبارز السحاب.

مرة أخرى يثبت هذا العام للعام الذي سبقه إن ما كان للحسين يسمو, وإن كربلاء في الأربعين تتخذ وظيفة رئة الارض وكل من يزورها يتنفس برئة ثالثة, كما يتزود منها بجرعة من الأمان, فمن زار الحسين عارفا بحقه ومدركا لعظمة مصابه ومقرا برسالة الدم حتما سيعود بتركة حب هائلة للعودة إلى الطريق ذاته مادام في العمر بقية.