رائحة الماضي الجميل والعبق تخترق القلوب والجوارح كلما احضرتها الذاكرة، لتعتلي بقوة على عرش الجمال والصدق والبساطة التي فقدناها كثيرا" وكانت جزءا" من حياتنا الفائقة الحلاوة والروعة، وهو ارث الجدات بلا منازع!

فكل الذي ما فقدناه بالأمس نشعر بالحنين اليه، تجرنا خيوطه العتيدة نحوه وكأنه ارتباط روحي يأبى النسيان، عابرا" بذاكرتنا اليه، حتى وان اخذت السنوات منا عمرا" بلا ملامح، لأنه منبع الاصالة والصدق والحياة النقية!

ومن ضمن مقتنيات تراثنا الخالد هي (النضدة) التي احتوت في عليائها والوانها المتعددة ارث الجدات والامهات، ورائحة القماش والقطن، فكل البيوت قديما" كانت تحتفظ بزاوية من زوايا البيت بمنضدة خشبية يعلوها انواع متعددة من الاغطية (اللحاف القطني) والفرش القطنية والوسائد ذات الالوان البراقة والبسط الصوفية، وتشكل هذه الكمية دواعي الفخر لربة البيت، إذ يصفونها بالبيت العامر! واحيانا" تكون من ضمن المهر المعد للعروس ولبيت الزوجية.

 

تباهى وحفظ

(النضدة) تعد من أغلى ما تملكه العائلة وهي دلالة على جمالية المنزل، وتعيد ربة المنزل ترتيبه بين الحين والآخر وايضا تستمتع بذلك حتما" ، كما وتزداد مقتنياته على مرور الزمن، والجدة أو الأم لن تتخلى عنه، اذ تحتفظ فيها للضيوف وجزء منها يهدى إلى الابن الأكبر في حال زواجه وتأثيث غرفته.

 وما يزال الكثيرون من العوائل العراقية يحتفظون بها في منازلهم ويعدونها جزءا "مهما"، بل ويتباهون بها لدرجة كبيرة، فيرتب بشكل منسق جميل كل فترة، وقد يعمل له غطاء "يتميز بالشفافية والجمال كي يكمل اهميتها وجماليتها، وبنفس الوقت تكون النضدة من مكملات مهر العروس الذي يعتنى بتصميمه وثمنه وانواعه، لأنه يعطي دلالة واضحة على معزة ابنهم وعروسته وقيمتها لهم!

 

 

بسط ملونة جميلة

وتتخلل (النضدة) انواع مختلفة الاشكال والالوان من البسط والاغطية الصوفية التراثية ذات العمل اليدوي المتقن بيد صانعيه من النساجين الذين يتفنون في نقشاته والوانه البراقة، وتبقى العائلة محتفظة بها لسنوات عديدة لأنها اولا ولا تتعرض للتلف لمتانتها وقيمتها الباهظة في السوق.

 

حافظة للنقود

(النضدة) بتفاصيلها وبهجتها ووجودها العتيد له ذكريات جميلة في المنزل، خاصة أن غالبية ما عليه لم يتم استخدامها مطلقا "بل كانت للضيوف، وهو أمر متعارف عليه لدى الجميع، وكانت الجدات والامهات قديما" ما بين الحين والآخر تحتفظ ببعض النقود أو الأغراض الصغيرة ما بين "الفرشات" لذلك من كان يحتاج لبعض من القطع النقدية المعدنية يمد يده بين الفرشات ليجدها وقد تكون منسية في بعض الوقت.

ومن ضمن هذه المحتفظ به بين طيات النضدة مجموعة من الملابس القديمة التي كانت ضمن جهاز العروس لوالدتها، ولكونها لا تناسب الأم، قامت بوضعها ما بين "الفرشات" لتحافظ على ديموتها وتحميها من التلف، وتبقى دائما "أمام عينيها في مطواها الذي تعتز به طوال حياتها.

وجاهة

ومن الجدير بالذكر ان قطعة الأثاث التي تحمل النضدة تسمى بالمحمل او الدولاب الخشبي المزكرش، وهو ايضا من التراثيات القديمة والمتواجدة ايضا في اغلب البيوت المدنية والريفية، ويتفنن النجارين المشهورين في صناعتها، بحسب طلب الزبون، فيما كان بعضهم يطلبونها تقليدية، وبرفوف قليلة من الخشب تكفي لوضع الفرش والاغطية فقط ، خاصة وأن الفرشات والمقتنيات، وهذا دليل على وجاهة أهل البيت.

 تشديد الكثير من السيدات على الاحتفاظ (بالنضدة والمحمل) إلى الآن فهو يعد صورة من صور المحافظة على إرث الأهل، فالعديد منهم من نقله الى منزله ووضعه في مكان بارز بل ويتفاخر بعضهم بهذا الإرث، حتى أن هنالك من يعتبره زينة في المنزل ويتعمد آخرون إلى صناعة محمل او بوفية فاخر وبخشب مميز وأشكال منحوتة بدقة ليوضع عليه إرث الوالدين ومهر الأم ورائحة الماضي الجميل والعبق بكل ما يحمل من ذكريات غاية في الروعة.