كنت أراها يوميا وانا في طريقي إلى مقر عملي امرأة متوسطة العمر تفترش الرصيف بقطعة كارتونية صغيرة متخذة من ظل احدى الاشجار متكأ لها حيث يجود عليها أرباب النعم بين الحين والأخر وهم يمرون بقربها بسياراتهم الفارهة في تلك المنطقة الراقية من محافظة بغداد ... كنت أراها يوميا ولكنني لا أعرف لِم كنت أغض الطرف عنها وانا أمر بقربها كما لم يحصل وان اعطيتها اي مبلغا من المال حتى وان كان ضيئلا جدا !! ؟

احد الأيام طلبت مني والدتي ان ادفع مبلغا من المال لاي فقير اقابله في الطريق وكما يقولون (دفعة بلاء) بعد أن رأت كابوسا مزعجا في ليلتها الماضية في الوقت الذي ازدادت فيه حوادث الموت والاختطاف واخبار المفخخات التي كنا نسمع عنها يوميا عقب سقوط النظام السابق , عندها فقط قررت ان اقدم هذا المبلغ الى المرأة المتسولة سالفة الذكر

ولكنني في ذلك اليوم لم أجدها في مكانها فقلت في نفسي انني ربما اكون قد حضرت مبكرة وعلى غير عادتي... وما هي الا بضع خطوات حتى رأيتها تنزل من سيارة اجرة (تاكسي) وترمي بقطعة الكارتونة على الارض وتجلس في مكانها المعتاد... حينها رأفت على نفسي حقا وأنا اقطع يوميا مئات الامتار واستقل ثلاث سيارات (كيا) على الاقل حتى اصل بعد جهد كبير ووقت طويل الى مقر عملي حيث لا يسمح لي مرتبي المتواضع الذي كنت اتقاضاه مثل هذا الترف الذي تتمتع به المرأة المتسولة يا للمفارقة!!


 كان استجداء مع سبق الإصرار والترصد وهذه المتسولة وغيرها كثير لم تتردد في استخدام كافة الأساليب الرخيصة في افراغ جيوبنا من المال لتجمع واردها اليومي على طريقة (عزيز قوم ذل).


في ذلك الوقت كان الحديث عن ظاهرة التسول حديثا تافها لا يقارن بما يجري على الساحة من احداث ساخنة غير إنني لم أكن أملك من خيار سوى ان أكتب وأكتب عن تزايد أعداد جيوش المتسولين الذين لايكاد يخلو منهم تقاطع او شارع أو سوق, تنظر الى احدهم فلا تجد في ملامحه أي مظهر من مظاهر البؤس أو العوز والحاجة وترى فيهم شابات جميلات تكاد العافية تتقطر من وجوههن وشبابا اصحاء واطفالا في عمر الورود لا ينقصهم سوى الماء ولا شيء غيره يزيل عن وجوههم الأوساخ والقذارة ومع ذلك هم يتسولون وما زالوا يتسولون ونحن نتفرج .