في زمان الذين يقولون ما لا يفعلون، والذين لا يقولون ولا يفعلون،لا شيءٌ أعزُّ من الوفاءِ!

لا يمكن أن يطمأن إلى غدر الزمان من تبصّر وتأمل في قول الحق تبارك وتعالى"وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"(سورة آل عمران-185)..ولكن ما أكثر هؤلاء المغرورين الذين أعمت بصيرتهم نوازع الطمع والأنانية والتكبر الأجوف، في حياة مادية قاحلة، خالية من معاني الوفاء والصدق، وما ظنك بشيء قد جعله الله في كتابه العزيز مدحاً وفخراً لأنبيائه، فقال:"وَاذكرْ في الكتابِ إسماعيل إنه كان صادقَ الوعدِ"(سورة مريم-54) ولو لم يكن في خُلف الوعد إلا قول الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لمَِ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"(سورة الصف- 2،3) لكفى أن يكون عبرة ودرساً لمن يعقلون!

يلخص سيد البلغاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام تلك المعاني بثلاث كلمات لا أكثر(الوفاء توأم الصدق)، فهما لا ينفصلان،ويكمل أحدهما الآخر،في منظومة أخلاقية متكاملة!

في رحلة رائعة عبر صفحات"ثمرات الأوراق" وجدت تلك النفحات الخالدة في وصف(أصحاب الغرور وعدم الوفاء) في كل زمان ومكان، حيث يقول عُمرُ بنُ الحارث: كانوا يفعلون ولا يقولون، فصاروا يقولون ولا يفعلون، ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون، فزعم أنهم ضنّوا بالكذب فضلاً عن الصدق!

ويعجبني قول العبّاس بن الأحنف:

ما ضَرّ مَن شَغَلَ الفؤادَ ببخلهِ

لو كان عَللّني بوعدٍ كاذبٍ

صبراً عليك فما أرى لي حيلةً

إلا التمسكَ بالرجاءِ الخائبِ

سأموت من مَطلٍ وتبقى حاجتي

فيما لديك وما لها من طالبِ

وذكر حيَّان بن سليمان عامرَ بن الطُّفيل، فقال: والله كان إذا وَعَدَ الخير وَفّى، وإذا وَعَدَ الشرَّ أخلف، وهو القائل:

ولا يَرهبُ ابنُ العمِّ ما عشتُ صولتي

ويأمَنُ منّي صولةَ المتهددِ

وإني وإن أوعَدتهُ أو وعدتهُ

لمخلفُ إيعادي ومنجزُ موعدي

وقال ابن خازم:

إذا قلت عن شيءٍ نعم فأتمَّهُ

فإن (نعم) دَينٌ على الحرِّ واجبُ

وإلا فقل (لا) تسترح وتُرح بها

لئلا يظنَّ الناسُ أنكَ كاذبُ

ويعجبني قول عبد الصمد الرقاشي في خالد بن ديسم عامل الري، وقد أبطأ عليه بوعد:

أخالد إنَّ الريَّ قد أجحفتْ بنا

وضاقَ علينا رحبها ومعاشُها

وقد أطمعتنا منك يوماً سحابةٌ

أضاءت لنا برقاً وأبطا رشَاشُها

فلا غيمها يصحو فيرجعَ طامعٌ

ولا وَدقها يهمي فيروي عِطاشُها

إذا كان الوفاء بين الأصدقاء واجب، فهو فرض بين الزوجين  والأولاد، وبين الأهل وفي مقدمتهم الوالدان، وبين الأقرباء وبخاصة الأخوة والأشقاء، فقد كثرت الشكوى من العقوق والقطيعة والخصام،في عصر التباعد والجفاء،وذلك في ظل عصر التقنيات الرقمية التي قربت المسافات واختصرت الأوقات،وكان يفترض أنها تعزز صلة القربى والرحم والمودة،وعلينا أن نتذكر أن قانون الحياة البشرية الذي قررته الحكمة الإلهية العظيمة هو التواصل والتعاون والرحمة والتسامح والوفاء،فهل نعتبر!؟

د. محمد فلحي