ــ أرى أن تلحق به ...
أوجزت الصحابية الجليلة السيدة سفانة بنت حاتم الطائي قصتها مع النبي (صلى الله عليه وآله) ورأيها الذي تمخّض عن اللقاء به بهذه الكلمات التي أجابت بها أخاها عدي بن حاتم الطائي عندما سألها عنه, فكانت على يقين من نفسها وهي تجيبه بعد أن رأت دلائل النبوة وسيماء الوحي ونور الجلالة يشعّ من جبينه, وتمنّت لو أن أباها أو أخاها كانا حاضرَين ليرَوا هذه الخصال الكريمة والصفات العظيمة التي وجدتها عند رسول الله.
كان أبوها مضرب الأمثال في الكرم وقد غطت شهرته جميع قبائل العرب, وتناقلت الأفواه قصص كرمه وجوده فكان مقصداً لكل محتاج وغوثاً لكل فقير ومسكين, ولا يزال تراثنا العربي يحتفظ بكثير من هذه القصص التي دلت على مكارم الأخلاق التي جسدها, وكان كل من يقصده لا يخرج من عنده إلا وقد أغناه وقضى حاجته حتى يقول السائل له: والله لقد رأينا منك أكثر ممَّا سمعنا يعني عن جوده وكرمه وكان حاتم دائماً ما يردد:
قُدُوري، بصَحراءَ، مَنصُوبةٌ *** وما يَنْبَحُ الكَلْبُ أضْيافِيَهْ
وإنْ لم أجِدْ لِنَزيلي قِرًى *** قَطَعْتُ لـهُ بعضَ أطرافِيَهْ
وكان يقول لزوجته بأنه لا يأكل طعاماً قط دون أن يشاركه فيه ضيف:
أيا ابنَةَ عبْدِ اللَّهِ، وابنَةَ مالِكٍ *** ويا ابنةَ ذي البُرْدينِ والفرَسِ الوردِ
إذا ما صَنَعتِ الزّادَ، فالتَمِسِي لـهُ *** أكيلاً، فإنّي لستُ آكِلَهُ وحدي
أخاً طارِقاً، أو جارَ بَيتٍ، فإنّني *** أخافُ مَذَمّاتِ الأحاديثِ من بعدي
وإنّي لعَبْدُ الضّيفِ، ما دام ثاوياً *** وما فيّ، إلاّ تلكَ من شيمةِ العَبدِ
وكثيراً ما كانت زوجته تلومه على إسرافه في العطاء ووهب كل ما يملك فكان يخاطبها بقوله:
وعاذِلَةٍ هَبّتْ بلَيْلٍ تَلُومُني *** وقد غابَ عَيّوقُ الثّرَيّا، فعَرّدا
تَلومُ على إعطائيَ المالَ، ضِلّةً *** إذا ضَنّ بالمالِ البَخيلُ وصَرّدا
تقولُ: ألا أمْسِكْ عليكَ، فإنّني *** أرى المالَ، عند المُمسكينَ، مُعبَّدا
ذَريني وحالي، إنّ مالَكِ وافِرٌ *** وكلّ امرِىءٍ جارٍ على ما تَعَوّدا
كانت فلسفته في الحياة أن يشتري بماله خلود الذكر وصون العرض:
أماوِيّ! إنّ المالَ غادٍ ورائِحٌ *** ويبقى، من المالِ، الأحاديثُ والذّكرُ
أماوِيّ! إنّي لا أقولُ لسائِلٍ *** إذا جاءَ يوْماً، حَلّ في مالِنا نَزْرُ
فالمال عنده يبقى وسيلة لسد حاجات السائلين:
ذَرِيني يكُنْ مالي لعِرْضِيَ جُنّةً *** يَقي المالُ عِرْضِي، قبل أن يَتَبَدّدا
أرِيني جَواداً ماتَ هَزْلاً، لَعَلّني *** أرَى ما تَرَينَ، أوْ بَخيلاً مُخَلَّدا
وإلاّ فكُفّي بَعضَ لومكِ، واجعلي *** إلى رأيِ مَن تَلحَينَ، رأيَكِ مُسنَدا
فلولا بذله المال لما كان سيد قومه فهو لا يبالي إذا أعطى ماله كله ولم يبقِ منه سوى فرس ودرع وسيف ورمح:
يقولونَ لي: أهلكتَ مالك، فاقتصِدْ *** وما كنتُ، لولا ما تقولونَ، سيّدا
كُلُوا الآنَ من رزْقِ الإلـهِ، وأيسروا *** فإنّ، على الرّحمانِ، رِزْقَكُمُ غَدا
سأذخَرُ من مالي دِلاصاً، وسابِحاً *** وأسْمَرَ خَطّيّاً، وعَضْباً مُهَنّدا
وذلكَ يَكفيني منَ المالِ كُلّهِ *** مَصوناً، إذا ما كان عنديَ مُتْلِدا
وكان حاتم يُكنّى بابنته (سفانة) رغم أن له ولداُ أكبر منها !! فما السر في ذلك ولم تعرف العرب الكنية بالبنت سوى لمن لا ولد له ؟؟
كان هناك عامل مهم ومشترك بين الأب حاتم وابنته سفانة ميّزها عن بقية أبنائه وهو ما اشتهر به حاتم من الكرم والجود فقد رُوي أن أباها كان يهبها كثيراً من الإبل، فتهبها لكل من يسألها. فقال لها: يا ابنتي لا يجدر بنا أن نجتمع على مال واحد فينفد، فإما أن تمسكي وأبقى أنا على حالي، أو أن أمسك، وتبقين على حالك. فقالت: والله لا أمسك أبداً، فقال لها: وأنا والله لا أمسك أبداً، فما الحل ؟ قالت: فلا نتجاور. ثم قاسمها ماله، وتباينا وافترقا..
فممن ورث حاتم الكرم الذي ورَّثه سفانة؟؟
رُوي أن أم حاتم ــ جدّة سفانة ــ وهي عتبة بنت عفيف قد اشتهرت بالكرم وعُرِفت به قبل زواجها من أبيه, وكانت لا ترد سائلاً فخاف أخوتها إسرافها في الكرم خوفاً على مالها, فطلبوا منها أن تكفّ وتحجم عن العطاء كي لا تفتقر, لكنها رفضت طلبهم مراراً وتكراراً وآلت على نفسها أن تستمر على ما هي عليه, وفي كل طلب من أخوتها كانت تزداد إصراراً على عادتها, فلما استيأسوا منها حبسوها في بيتها، وكانوا يقدمون لها ما تحتاجه من طعام وشراب, وبعد سنة من حبسها ظنّوا أنها تركت عادتها في الكرم والعطاء فأطلقوها وأعطوها مجموعة صغيرة من الإبل لتتسلى برعيها.
ولكن ما إن مضت عليها فترة حتى عادت إلى إخوتها خالية الوفاض فقد جاءتها امرأة من هوازن كانت قد اعتادت أن تزورها كل عام فشكت إليها الفقر والحاجة وسوء الحال وسألتها أن تعطيها ما تتأوّد به وتتقوّت منه، فقالت لها عتبة: خُذي هذه الإبل كلها, فقد ذقت من مرارة الجوع ما عزمت عليه ألا أمنع محتاجا ثم أنشأت:
لعمري لقد ما عضّني الجوعُ عضةً *** فآليتُ ألّا أمنعَ الدهرَ جائعا
فقولا لهذا اللائمي اليومَ: أعفني *** فإن أنتَ لمْ تفعلْ فعضَّ الأصابعا
فماذا عسيتمْ أن تقولوا لأختكمْ *** سوى عذلكمْ، أو عذلِ ما كانَ مانعا
وماذا ترونَ اليومَ إلّا طبيعةً *** فكيفَ بتركي يا ابنَ أمَّ الطبائعا
كما روي عن سيرتها وسيرة ابنها حاتم كثيراً من القصص وصل بعضها إلى درجة الأساطير ولكنها في الوقت نفسه دلت على أنها أورثت ابنها حاتماً ــ بالذات ــ هذه الخصلة, من هذه القصص أن أخا حاتم أراد أن يحل محله بعد وفاته فقالت له أمه: إنك لا تقدر على ذلك.., ولما سألها عن السبب؟ قالت له: إنك عندما كنت صغيراً كنت لا ترضع من ثديي إلا وحدك وعندما كنت أرضِع معك طفلاً آخر كنت تبكي حتى أنحيه, أما حاتم فكان لا يرضع مني حتى يكون معه طفل آخر..!
مات حاتم قبل أن يبعث النبي بست سنوات وقد ورثت ابنته كرمه وجوده وسارت على خطاه فلما أشرقت الدعوة الإسلامية وانتشرت الفتوحات التي حطمت أصنام الجاهلية كان من ضمنها فتح قبيلة طيء وجاءت خيول المسلمين بقيادة علي بن أبي طالب (عليه السلام) في سرية مكوّنة من مائة وخمسين فارساً فحطموا صنمهم (الفلس) ودعوهم إلى نور الإسلام وكان عدي بن حاتم ــ زعيم طيء بعد أبيه ــ مسافراً إلى الشام أثناء مجيء جيش المسلمين.
وفتح الله على يد علي وجاء بلواء النصر مرفرفاً إلى رسول الله ومعه سبايا طيء ومن ضمنها سفانة بنت حاتم الطائي وهي أسيرة.. لقد أرادت أن تعرف ما يفعل رسول الله بها لتعرف هل هو نبي حقاً أم لا ؟ فعندما يختار الله نبياً فإنه بالتأكيد يكون أفضل خلقه في حينه لأنه اصطفاه عليهم وحمّله رسالته فكيف رأت سفانة رسول الله ؟؟
وقفت سفانة أمام رسول الله وقالت: أمنن عليَّ منَّ الله عليك، فقد هلك الوالد، وغاب الوافد، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفُكُّ الأسير، ويحمي الضعيف، ويُقري الضيف، ويُشبع الجائع، ويُفرِّج عن المكروب، ويُطعم الطعام، ويُفشي السلام، ولم يرُدَ طالب حاجةٍ قط، أنا بنت حاتم الطائي...
لقد أوضحت عن نسبها وحسبها كما بيّنت موقفها والحال الذي آلت إليه بعد أن مات أبوها .. ويستطيع القارئ أن يستشفّ إن سفانة لم تقل كلماتها هذه إلا بعد أن رأت سيماء النبل والشهامة والنجدة في وجه رسول الله وإلا فإن الموت أشد عليها وهي بمكانتها من استعطاف رجل ليس بأهل للمروءة والنخوة والسماحة وقد كان ظنها في موضعه..
ما إن أتمت سفانة حديثها حتى قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جارية، هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك مسلماً لترحَّمنا عليه.
ثم قال (صلى الله عليه وآله)لأصحابـه: خلُّوا عنها، فإنَّ أباها كان يحب مكارم الأخلاق.
ثم قال لها: لا تعجلي، حتى تجدي ثقة يبلغك بلادك، ثم آذنيني.
لقد خاف رسول الله عليها أن تسافر وحدها إلى قومها دون أن تجد من يوصلها من الثقاة إكراماً لها, تقول سفانة: ثم جاء ركب من بلى، فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلت: قدم رهط من قومي.
فأذن لها النبي بالرجوع إلى قومها وهنا تواصل سفانة قصتها مع رسول الله فتقول: وكساني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وحملني، وأعطاني نفقة..
ثم أسلمت سفانة واستأذنت رسول الله بالدعاء له فأذن لها فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا جعلك سبباً في ردها
ثم خرجت حتى قدمت على أخي، فقال: ما ترين في هذا الرجل؟!
فقلت: أرى أن نلحق به...
ولما سألها عما دعاها إلى قولها هذا قالت له: رأيت فيه خصالاً تعجبني، رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه .
وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أشار عليها بأن تتكلم مع النبي وفي هذه الرواية ما يدل على شرفها وعفتها فقد روي أنه (عليه السلام) قال لها: قومي فكلميه فلما كلمته، سألت عن الرجل الذي أشار إليها، فقيل لها: هو علي، وهو الذي أسركم، أما تعرفينه؟!
فقالت: لا والله، ما زلت مُدْنِيَةً طرف ثوبي على وجهي، وطرف ردائي على بُرقعي من يوم أُسرت حتى دخلتُ هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه.
أسلمت سفانة وكانت سبباً في إسلام أخيها وقومها حيث سافرت إلى الشام لتلحق بأخيها عدي الذي سألها عن رسول الله وكان عدي من ألد أعداء الإسلام فدهش عندما سمع كلام أخته ولكن شيئاً فشيئاً بدأ يفكر وقد عزم على أمر خطير ربما سيغير مجرى حياته إلى الأبد
لقد صمم عدي على السفر إلى المدينة المنورة للقاء رسول الله تحثه على ذلك كلمات أخته التي يثق بحنكتها وعقلها وحكمتها.., فلا يمكن أن تخطئ أخته في هكذا أمور خطيرة
فكيف وجد عدي الرسول (صلى الله عليه وآله) لنترك الحديث له ليروي قصته
يقول عدي: دخلت على محمد وهو في المسجد ، فسلمت عليه فقال : من الرجل ؟ فقلت عدي بن حاتم فرحب بي النبي ثم دعاني إلى بيته لكي استريح من وعثاء السفر وعناء الطريق .. هال عدي كرم رسول الله واعتنائه بالضيف ورأى في وجهه ما اطمئن له قلبه من الإيمان والرحمة والعطف وفي طريقهما إلى البيت حدث ما عزز موقفه بأن هذه الأخلاق لا يحملها إلا الأنبياء .
يقول عدي: فوالله إنه لعامد بي إليه ، أي نحن في طريقنا إلى البيت ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة في الطريق فاستوقفته، فوقف طويلاً تكلمه في حاجتها، ووقف عدي وهو يفكر.. كان محمد يستطيع أن يؤجل حديثه مع هذه المرأة الضعيفة أو يتجاهلها أو يوعز إلى أحد أصحابه بقضاء حاجتها كما يفعل الملوك ومن يطلب الرئاسة, والجاه ولكن محمداً لم يفعل شيئاً من ذلك, بل بقي حتى فرغت من كلامها وهو منصت إليها !!
ويواصل عدي حديثه: ثم مضى بي حتى دخل بيته ، فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فناولها إليَّ وقال : اجلس على هذه, قلت: بل أنت، قال: بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول الله على الأرض فقال عدي في نفسه والله ليس هذا أمر ملك .
ولما رأى عدي هذه الأخلاق واستمع إلى حديث رسول الله عرف أن محمداً لم يطلب ملكاً ولا مالاً ولا جاهاً, بل جاء ليتمم مكارم الأخلاق وينقذ الناس من ربقة الذل والعبودية ويدعو إلى الحرية والمساواة والعدل, فأسلم وكان من خيرة صحابة رسول الله الأجلاء ومن صفوة حواريّ أمير المؤمنين الفضلاء بفضل أخته سفانة التي كان مصداقاً لحديث رسول الله في وصيته لأمير المؤمنين كما جاء عن لسانه (عليه السلام): قال: (بعثني رسول الله إلى اليمن وقال لي: يا علي.. لا تقاتلنّ أحداً حتى تدعوه، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي)..
محمد طاهر الصفار
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري