تضمنت رسالة الحقوق للإمام السجاد عليه السلام جملة من حقوق صلة الرحم, إذ عبرت عن طبيعة العلاقات التي حددها الله للبشر فهي السبيل للتكاثر والتوازن والاستمرارية, ومن هذه الحقوق حق الأم وحق الولد, وحتما ما ينبغي إيراده كمتمم لهذه الحقوق هو حق الأب على أبنائه؛ لما فيه من حث على تمييز مكانة الأب من خلال توضيح أساس التكوين البشري من نسل الأب وتحديده كأصل لفروع ابنائه.

 

نص حق الأب وفق ما جاء في رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام):

 (وأما حق أبيك: فأن تعلم أنه أصلك، وأنك فرعه، وأنك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، وأحمد الله وأشكره على قدر ذلك، ولا قوة إلا بالله...).

الأب وطن

يحمل الأب على عاتقه مسؤولية رعاية أسرته, وتوفير كل ما تحتاجه ماديا ومعنويا, وغالبا ما يكون الأب مصدر القوة والحزم أمام ابنائه وهذا يعود للطبيعة التكوينية للرجل وقدرته على إدارة سلوكياتهم من خلال العقل, لكن ذلك لا يعني إلغاء الدور العاطفي له او إقصاء مشاعره في تعامله معهم, إذ يحاول الأب جاهدا وبالفطرة من خلال أي ممارسة يوجهها للأبناء مباشرة أو غير مباشرة بتقويمهم وبنائهم؛ لتعزيز قدرتهم على ممارسة دورهم في الحياة بالشكل الأفضل, وهذا أن لم يتضح في مراحل مبكرة من فترة حياتهم؛ حتما يمكن الشعور به في فترة متقدمة لا سيما بعد ممارسة الأبناء مسؤولياتهم في الحياة وخصوصا بعد ادراكهم لمعنى الأبوة واقعا ملموسا مع ابنائهم, في ذلك الوقت يقدر معظم الأبناء سبب حزم الأب في تربيته وإصراره على تشخيص أخطائهم وتصحيحها ولو بجرعة من القسوة.

عقوق

تتبع بعض منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان كثيرا من الحالات التي تستدعي اهتماما خاصا من أجل رفع الحيف الذي يمارسه بعض الأبناء تجاه آبائهم, إذ يعد عقوق الوالدين من الأفعال المشينة بحق الإنسانية, وتأكيدا على فداحة هذه الممارسة ما ورد في كتاب الله جل وعلا فيما يخص العقوبة المترتبة على من يقدم على عقوق أبويه ولو بالكلمة أو حتى بالإيماء, واستمرار تلك المؤشرات بذكرها في السنة النبوية, إذ وجه رسول الإنسانية نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال مجموعة كبيرة من احاديثه الشريفة إلى ضرورة إدراك منزلة الأبوين, بل رد إحسانهما بالجميل, وأورد ما يكفي من الأمثلة والمواعظ التي تبين فلسفة الرحمة المتبادلة في اقدس منظومة اجتماعية ألا وهي العلاقة الفطرية بين الآباء وأبنائهم, ومن المخزي أن يرتبط تطور واقعنا الفكري والتكنولوجي بانحسار المبادئ وتلوث الفطرة بعزوف كثير من الأبناء عن تأدية دورهم الحقيقي في التعامل مع الوالدين, وعدم وعيهم بمآل تصرفاتهم المجحفة لحقوق الآباء.

دار المسنين

ربما لو أردنا أن نختزل كلمة العقوق بصورة حية وملموسة نحتاج إلى زيارة طارئة إلى دور المسنين التي أخذت تتزايد في عموم الدول, هناك تتجلى واقعا ملامح الخيبة والظلم, فمعظم نزلاء تلك الدور يخبئون قصصا مأساوية يندى لها الجبين, والمؤسف بل الموجع إنهم لم يقصروا في أداء دورهم كآباء كما يظن البعض بأن "العقوق نتيجة متوقعة لتقصيرهم في تقديم الدعم المادي والمعنوي اثناء تربيتهم لأبنائهم", بل ربما الحقيقة تكمن في قصورهم بمعرفة الطريقة الصحيحة لشكل ذلك التقديم, إذ يعبر كثيرا منهم عن مدى إيثارهم وغزارة عاطفتهم على الأبناء ولكن... !

ال (لكن) هذه تحتاج إلى تعمق في نوازع النفس البشرية, فكيف يرد الجمال بالقبح؟, وكيف ترد الرحمة بالقسوة؟, بل كيف يغيب عن فكر أحدنا مصير العاق سواء في الدنيا أو الآخرة! وكملاحظة توصل إليها معظم الذين تمكنوا من إخراج اولئك المسنين من قوقعة صمتهم بأنهم بالغوا في ضخ مشاعرهم دون الانتباه إلى إحداث التوازن في تعاملهم مع الأبناء خلال فترات حياتهم المتلاحقة وهذا تحديدا ما يشار إليه في معظم كلمات المسنين المشفوعة بالندم والحسرة.

دعوة

دعانا الله جل شأنه ودعانا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لمراعاة حقوق الوالدين, وهذا ما دعا الإمام السجاد (عليه السلام) إلى التأكيد عليه في رسالته الموسومة برسالة الحقوق لإبراز معالمها وتشخيصها مع بقية الحقوق الواجب تأديتها وفق مضامين الرسالة, والسؤال المشفوع بالتأمل الوارد ذكره والتذكير به: هل ترد دعوة الله ورسوله؟ وهل نحتاج دليلا يرشدنا إلى إدراك بر الوالدين؟!

إيمان الحجيمي