القرية ..

 

بات الأشعريون ليلتهم الأولى على ضفاف نهر القرية وهم لا يفكرون بسوى أرض لا يكون للحجاج عليها سلطة..، أرض تؤمنهم لكي يعيشوا فيها بسلام، فأخذوا يتطلعون إلى هذه الأرض التي نزلوها لعلهم يجدون فيها ما يبتغوه...، فوجدوا شيئاً غريباً يحدث!!
لاحظ بعض رجال الأشعريين أن سكان هذه المنطقة يتحركون حركات مريبة وهم في خوف وقلق وعلى عجلة من أمرهم، ولاحظوا أنهم يدخلون مواشيهم في قلاع عالية الجدران ويغلقون عليها الأبواب والمنافذ، فارتاب الأشعريون من هذا التصرف!!
أيمكن أن يكون هؤلاء السكان قد خافوا منهم ؟ أيمكن أن يكونوا هم مصدر هذا القلق والخوف والاضطراب لسكان هذه القرية ؟ لا بد من إخبار أهل القرية بأنهم لم يأتوا ليلحقوا بهم سوءاً أو ليصيبوهم بأذى, وليسوا بلصوص ولا قاطعي طرق وإنما هم فقط.. عابرو سبيل لكي يطمئن أهل القرية ويذهب عن قلوبهم الرعب أو ...لا بد من معرفة هذا الأمر وكشف خباياه ؟
تقدّم بعض الأشعريين إلى السكان وسألوهم عن سبب ما يفعلونه...!! لكن توقّع الأشعريين لم يكن في محله, فلم يكن خوف سكان القرية من الأشعريين, بل إنهم يخافون من غزو قبائل الديلم التي تغزوهم في كل سنة في مثل هذا الموسم فتقتل وتنهب وتحمل معها ما خف وزنه وغلا ثمنه وتترك بعدها القرية في خراب، وقد وصلتهم الأخبار بأن هذه القبائل في طريقها إلى غزو القرية وهي على بعد بضعة أميال عنها !!!
الدفاع عن القرية
سمع الأحوص بهذا الأمر فقرّر إغاثة القرية والدفاع عنها مهما كلف الأمر.., فجمع رجال قبيلته وحدثهم بما نوى عليه من رد غزو قبائل الديلم والدفاع عن أهل هذه القرية المستضعفين, وكذلك الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وأطفالهم وأموالهم ومواشيهم فهم في هذه الأرض يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، فلا قلعة تحصنهم ولا أسوار تمنعهم من هجمات الديلم فمن المؤكد أن الديلم سيباغتونهم حالما ينتهون من غزو القرية.. فهم في العراء، فلبى نداء الأحوص كل رجال القبيلة وصاروا كلهم على رأي واحد وهو القتال حتى الموت.
استعد الأشعريون لمواجهة قبائل الديلم وهم في أعلى درجات الحماس مصممين على الاستماتة في القتال، وأحدوا سنان الغضب، وما إن اقتربت قبائل الديلم من القرية، حتى بادرها الأحوص وعشيرته بهجوم مباغت كالصاعقة فأصاب الديلم رعب شديد من هذا الهجوم الذي لم يكن متوقّعاً فقتل فيه الكثير منهم، فما أحسوا إلا والسيوف تضربهم من كل جانب والموت محيط بهم، فهرب من استطاع الهرب وتركوا قتلاهم وجرحاهم على مكانهم، فكان هذا الهجوم الذي نزل عليهم كالصاعقة درساً أبدياً لهم فلم يعاودوا تكراره ثانياً.
الإقامة والتأسيس
استطاع الأشعريون رد غزو الديلم عنهم وعن سكان القرية.., ولما رأى السكان ما فعل الأشعريون بالديلم وعرفوا منهم نجدتهم ونخوتهم وسجيتهم الكريمة في الدفاع عن المظلوم ومواجهة الظالم أحبوا أن يقيموا معهم، فاجتمع رؤساء القرية وجاءوا إلى الأحوص وشكروه على صنيعه وقدموا له الهدايا وطلبوا منه أن لا يفارق هو وعشيرته أرضهم وأن يقيموا بينهم ويشاركونهم في عملهم كمزارعين ومستثمرين لهذه الأرض والاستفادة من خيراتها, فقبل الأحوص وقبيلته هذا الطلب واستوطن الأشعريون هذه القرية التي عرفت فيما بعد باسم مدينة (قُم).
انتشار التشيع
بعد استقرار الأشعريين في هذه الأرض عام (73هـ) لحق بهم بقية رجال هذه القبيلة من البلاد وراحوا ينشرون التشيّع فيها، وما إن مضت عشر سنوات أي في عام (83هـ) حتى ساد التشيّع ربوع هذه البلاد، فكان لطلحة بن الأحوص دور عظيم في تمصير قُم وتعمير دورها، ثم بدأ العمران يتوسّع شيئاً فشيئاً وبُنيت المساجد والمدارس الدينية على أرضها، وأصبحت قُم تدريجياً من حواضر الشيعة ومن المدن الشيعية المقدسة خاصة بعد أن احتضنت الجسد الطاهر للسيدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)، وازدهر بها العمران والعلوم والفنون كما كان لها الفضل في تشيّع بقية القرى والمناطق المجاورة لها بفضل الأشعريين الذين تفرّقوا في المناطق القريبة لها كـ (كاشان) و(آوه) و(ساوة) والقرى الممتدة بين قم وأصفهان وراحوا ينشرون التشيّع فيها.


محمد طاهر الصفار