في كلّ عام، حين تهبّ نسائم محرم، تستيقظ الأرواح قبل الأجساد، وتخفق القلوب بنداء (يا حسين)، كأن التاريخ يعيد رسم ملامحه في الطرقات، على وقع المواكب واللطميات ودموع العاشقين.

ليست هذه المشاهد طارئة أو احتفالات موسمية، بل هي امتداد حيّ لوجدانٍ اشتعل منذ اللحظة الأولى التي هزّت فيها مأساة كربلاء ضمير الإنسانية، إنّ المواكب الحسينية ليست مجرد مسيرات عزاء، بل هي صرخة حق، ورسالة ولاء، وسفرٌ طويل عبر القرون، خطّته دموع الموالين وسواعد العاشقين.

 

من قلب المأساة... ولدت أولى الدموع

كانت السيدة زينب (عليها السلام) أول من أقام مجلس عزاء على الإمام الحسين (عليه السلام) بعد فاجعة كربلاء، إذ رفعت صوتها في وجه الظلم وسط أجواءٍ تملؤها النار والدم والخذلان، أما الرجال فكان جابر بن عبد الله الأنصاري أول من أقام مجلس بكاء علني بعد لقائه بالإمام زين العابدين (عليه السلام)، حين جاء من المدينة المنورة إلى كربلاء حاملاً وجع المحبين ونار الفقد.

 

العزاء في الخفاء... صمود في وجه القمع

لم يكن الطريق مفروشًا بالورود، فقد مرّت هذه الشعائر بعهود من القمع والخنق، بدءاً من الحكم الأموي، ومروراً بالعباسي والسلجوقي، ثم المغولي والعثماني، حيث كانت تُقام في البساتين، والسراديب، والقلوب المرتجفة كأنها نار تُخفى تحت الرماد، لكنها لا تنطفئ.

 

واستمرت هذه الحالة حتى عام 1825م، حين تولى حكم العراق الوالي العثماني "علي رضا باشا"، الذي كان ينتمي إلى الطريقة البكتاشية ذات البعد الصوفي الشيعي، فأذن لأهل كربلاء وسائر العراقيين بإقامة مواكب العزاء علناً، وكأن صوت زينب في الكوفة وجد صداه بعد قرون من الصمت.

 

المواكب... من لقمة وفاء إلى ملاحم عشق

بدأت المواكب بشكل متواضع، إذ كان المحبون يوزّعون الطعام على حب الحسين (عليه السلام) بحسب إمكانياتهم، مهما كانت بسيطة، لكنها سرعان ما تطورت، فصارت تقدم ألوان الطعام، والدواء، والخدمات، وحتى الشِعر والنحيب.

واحدة من أبرز هذه الشعائر التي وُلدت من رحم الحب والولاء، "ركضة طويريج" التي أسسها السيد صالح القزويني عام 1872م، وتنطلق سنويًا من مدينة (طويريج) حتى تصل إلى ضريح الإمام الحسين (عليه السلام)، في مشهد يشبه عودة العباس لو قُدّر له الرجوع.

 

اللطم... لغة الحزن العراقیة

لم يكن اللطم مجرد حركة عاطفية، بل هو تعبير صادق عن الألم والولاء، وقد بدأت هذه الشعيرة منذ عهد الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث كان يحثّ على الإنشاد الحزين، ويُروى أنه قال لأبي هارون المكفوف: "يا أبا هارون، أنشدنا كما ينشد أهل العراق"، في دلالة واضحة على تميّز أهل هذا البلد في تفجير الحزن شعراً وصوتاً ونغماً.

من مجلس السيدة زينب (عليها السلام) الأول، إلى ركضة طويريج، ومن السراديب المظلمة إلى الشوارع الممتلئة بالعزاء، تمضي المواكب الحسينية شاهدة على خلود الحسين في الوجدان الإنساني، إنها ليست تقليدًا بل رسالة، ليست عادة بل عهداً يتجدد، يصرخ في وجه الظلم: "هيهات منّا الذلة".

فكما لم يُطفأ وهج كربلاء رغم قسوة الزمن، كذلك لن تخبو نار هذه المواكب ما دام في القلوب عشق، وفي الدموع ولاء.