بكت بحرقة ! فقاطعها بصوته الجهوري الذي اختلط بنبرةٍ حادة اعتادت عليها مؤخراً :
ـــ ما بكِ يا أمرأه ؟ ما هذا البكاء ؟ أنتِ نادمةٌ أم ماذا ؟؟؟!!!
فأجابته بصوتٍ يتكسر تحت شهقات الدموع :
ـــ إنه الشوق يخترق جراح الفقد ... أنسيتَ أم تغافلت أنني " أم " !
صرخ بحزم ينهي عويلها :
ـــ أو ترمين بطولاته تحت أقدام ضعفك وتسحقينها بذلك الأنين ؟ صَه ... فهدفه كان أسمى من ولولة نساء .
ثم جلس أمامها رابضاً يتحين الفرص ويحاسب سكناتها، فلم أعد أحتمل ضيق الانتظار الذي أطبق على أنفاسي حتى كاد يقتلها، عندها أمسكت عضدها برفق وكأني أرجوها أن تخبرني ما أجهله عن ولدها ، ولو بكلمة واحدة .
أجابتني في حيرة وهي تلملم بقايا دموعها بصمت ،
ـــ لا يمكن ذلك ! فكيف لي أن أختصر عمراً بكلمة ؟ عل الكلمات بمدادها تفي وصفه .. ولا اعتقد ذلك أيضاً !
ثم وجهت نظرها الى صورته المعلقة على جدار الغرفة محتضنةً ربع حيزه، وأنا أتابع أحداقها حيث ارتحلت .. مصغية لقولها :
ـــ كنت أحاول إقناعه بالمكوث قربي بدل الالتحاق ، بتعليل أنه لا يزال صغيراً وهناك من هم أولى بتلبية الفتوى .. كنت أراه طفلاً يحمل بندقية، فيستهجن تلك النظرة والفكرة ؛ ويذكرني بأنه هجر طفولته مع أجسادٍ الأبرياء ويمم وجهه مجاهداً يحمل الموت على أكتافٍ أثقلها الواجب، يروم تحصيل منزلةً جهلها الآخرون حين وهنوا واستكانوا .
أما أنا ... فقد كنت أراها تحبس دموعها خلف قضبان هيبة والده التي تربصت بها من كل جانب .
تنهار ثم تتجالد الكلمات بين شفتيها من جديد :
ـــ كيف أصف لكِ ولدي ؟! لا تسعفني الكلمات .. أستحلفكِ بالله يا ابنتي، هل لا زالَ وجود لرجلٍ يُقبل أقدام والدته كل صباح كما كان يفعل ؟ أم روعة حديثٍ كحديثه ؟ كان يشعرني بأني حبيبته الوحيدة التي يحيطها بعطفه ورعايته ! حتى إنني أضعتُ المعادلة !
من منا كان بحاجة الآخر ؛ أنا أم هو ؟ ماذا أقول بعد ؟ كيف اصف (عماد) ؟ وبماذا أصف قلباً أرحم من قلبي ؟
سأترك هذا الكلام لعلكِ تشككين بصحته كونه ممزوجاً بروح الأمومة وذكرى الحنين ! وسأحدثكِ عن سريتهِ التي التحق إليها حيث فوضته قائداً لبسالته ! وليُخبركِ خاله الذي كان يشده بقوة من خلف الساتر ؛ يحاول إبعاده كونه الأصغر سناً بينهم :
ـــ " انزل بني ... فهناك من هم اكبر منك سناً ليعتلوا مقدمة الموت لا انت " .
" أو تعلمين ما كانت إجابته ؟ّ أحسبكِ لا تتوقعين ! ... أفلت عضده من بين قبضة أخي قائلاً : خالي ... أتركني أرجوك .. ولماذا تظنني أتيت ؟ أو ليس لأجل ذلك ؟ " ثم اقترب منه ينظر ملأ أحداقه .. " افهمني أنا لم آتِ لأجل المال بل أغرتني الشهادة !!! وها أنا أتيتها ساجداً " ثم أطلق بضع رصاصات في الهواء مؤكداً قوله وصعد الى الساتر .
خفتت نبرة صوتها حين قالت : " رحيله الأخير كان غريباً وكأنه قطع حبال الوصل بعالمٍ لم يعد ينتمي اليه، فأخذ ينهي أعماله المتعلقة ويتصل بكل الأقرباء والأصدقاء ! ولعل أيام إجازته الخمسة كانت كافية لزيارة كل المراقد الطاهرة ، " سأجلب شهادتي التقديرية من النجف الأشرف " !!!
بهذه الجملة استقبل طريق أمير المؤمنين عليه السلام ، لم أفهمه وكأنه يهذي ولم ينم كثيراً، حاول دون إغماض عينيه عن صور أحبها ، لم يكن طبيعياً تلك الإجازة ؛ يتصرف بغرابة كمن يخط وصيته .
ارتعدت ولم أشأ ... لكنه رحل كان (الالتحاق الأخير) .
" أمي ... أحبكِ كثيراً ؛ هل أنتِ راضية عني ؟ أخبري والدي أن سريتنا أهدتنا ملابس بيضاء ، أخبريه أنهم أهدوني كفن الشهادة ... أحبكما " ...
اتصال لم يتعدى الدقيقتين ... خيل إلي انه حلم، نام بعده وسط جفوني ليستيقظ متأهباً لواجبه الأخير ..
أخبرنا رفاق جهاده ؛ أنه نهض باكراً فاغتسل وصلى فريضة الفجر، ولبس كفنه كما أسماه فضلاً عن نطق الشهادتين ، وخرج برفقة بعضهم لتنفيذ مهمة عسكرية ... لم يعد ...
صمتت وهي تقيد مشاعرها بسلاسل الصبر كي لا تبدي ألماً لاح لي رغم ذلك .
جمعت قواها وقالت بينما تطبق عينيها بشدة لتخفي أسرار شوقها : " ذهب بكامل أرادته وعدته ، لم أكن بحاجة الى ذلك البرهان الجليل ، فأنا أيقنت انك لست طفلاً يعبث بسلاح منذ أن قلت لي حين أحاول إحباط عزيمتك عن الالتحاق . " إذا منعتني عن الجهاد وكأنكِ تمنعينني عن الصلاة .. هل ستمنعينني عن إداء الصلاة يا أمي؟ " ...
أرأيتِ ... كلمة واحدة لا تكفي .. أرجوكِ لا تتعبيني أكثر ؛ فلم أعد أقوى على سرد حكاية بلغة لا تفيها كل الحق ! إما إن كان لديكِ لغة اكبر بمعانٍ أقدس ؛ فلنتكلم .. وإلا ؛ فاتركيني أجمع شذرات بلور تناثرت في فضاء روحي، وأنهض لأداء فريضة الظهر فإني لا أجد عزائي إلا بذكر الله .
نغم المسلماني
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري