هناك أماكن لا يقصدها الناس بحثًا عن الأمل، بل يجدونه رغم كل شيء، أماكن تُشبه قلوب الأمهات؛ تحتضن الضعف وتحرس الأمل في صمت. المستشفى ليس مجرد جدران بيضاء، بل عالمٌ آخر، موازٍ تمامًا للحياة التي نعرفها، حيث يتوقف الزمن عند حدود الألم، ويتحرك فقط عندما يبتسم طفلٌ رغم مرضه.

وفي قلب مستشفى الإمام الحسن المجتبى، المعروف في الأوساط الشعبية المستشفى التركي، وبين أروقة قسم أطفال السرطان تحديدًا، تولد قصص صامتة لا تكتبها الصحف، ولا تلتقطها عدسات الكاميرات، قصص أبطالٍ صغار يخوضون معاركهم بشجاعة، ومعهم وجوه لم تألف الأضواء، لكنها صارت جزءًا من حكايات النجاة.

من بين هذه الوجوه، تقف الممرضة كوثر، ليست كمجرد موظفة ترتدي معطفًا أبيض، بل كأنها جسرٌ خفي بين الألم والرجاء، تحمل قلبًا لا يعترف بالاستسلام، وتخوض مع الأطفال معركة صامتة، عنوانها الوحيد: الأمل.

اليوم، نفتح نافذة مختلفة على هذا العالم المغلق، لنحاور كوثر، لا لنسألها عن عملها الروتيني كممرضة، بل لنحاول أن نتلمس معها ما لا يُقال، لنسمع صوت القلب خلف المعطف الأبيض، ونكشف الستار عن عالمها المليء بالمشاعر والتحديات، حيث تبدأ الحياة من الألم، وتنتهي أحيانًا عند حدود الصبر.

 

في عالمكِ اليومي، حيث تختلط أصوات الأجهزة بنبضات القلوب الصغيرة، كيف ترين نفسكِ؟ هل أنتِ مجرد جزء من نظام طبي دقيق؟ أم أنكِ جسرٌ صامت ينقل الأمل من جهة إلى أخرى دون أن يراكِ أحد؟

أرى نفسي جزءًا لا يتجزأ من هذا النظام الطبي، لكنني في الوقت ذاته أكثر من مجرد ممرضة أو معالجة في ردهة الأورام، حيث كل طفل يحمل أملًا وألمًا في آنٍ واحد، أشعر أنني جسرٌ بين الأمل واليأس، بين العلاج والراحة، ولكن يتحتم أن أكون جسرًا ناطقًا، فوجودي يجب أن يُرى ويُسمع ويُحَسّ، أنا وصغاري اعتدنا على قراءة الفاتحة وبعض السور التي يحفظونها، عندما يلامس الخوف قلوبنا، ولنبوح لكم بسرّنا الأعظم: نحن وجدنا في عاشوراء لكل ألم يمس أرواحنا وأجسادنا، علقمَةً، فينتهي كل شيء قبل وصول (إنك قريبٌ مجيب).

قد لا يراني الكثيرون بشكل مباشر، ولكن دوري هو تقديم الأمل في كل لمسة، وفي كل كلمة، وفي كل لحظة طمأنينة، ربما لا يظهر تأثيري في التقارير الطبية أو الفحوصات، لكنني أرى نفسي جزءًا من العلاج الروحي والنفسي الذي يحتاجه الطفل وعائلته، أنا لست فقط آلةً ضمن نظام دقيق، بل همزة وصل بين العلم والإنسانية، بين الألم والأمل، مهمتي ليست فقط تقديم العلاج، بل أن أكون مصدرًا للاطمئنان، وأُسهم في تعزيز القوة الداخلية لكل طفل وعائلته في رحلة التحدي هذه.

 

عندما تنظرين في أعين طفلٍ مريض، ماذا تسمعين قبل أن يتحدث؟ وهل هناك رسائل خفية لا يلتقطها سواكِ من بين تلك النظرات؟

حين أنظر في عيون طفلٍ مريض، أسمع صدى براءةٍ تُقاوِم، وضعفًا يحاول أن يبدو شجاعًا، أسمع سؤالًا لا يُقال: (هل سأتحسن؟ هل سأعيش؟)، وأحيانًا أسمع رجاءً خافتًا: (لا تتركيني).

نظراتهم ليست عادية... فيها عمرٌ كامل من الألم، والحنين، والخوف، والحكمة التي لا تليق بطفولة، هناك رسائل لا يراها أحد، لكنها تمزق قلبي بصمت: (أنا متعب، لكني لا أريد أن أُحزنكم)، (هل تستطيعين أن تبقي يدك في يدي حتى أنام؟)

في تلك اللحظات، أشعر أن دوري أكبر من ممرضة، أنا الأمان، والكتف، والطمأنينة، حتى لو كانت لحظاتنا قصيرة، فإنها تعني كل الحياة.

 

هناك تفاصيل صغيرة لا يلاحظها أحد في زوايا المستشفى: هل تعتقدين أن هذه الأشياء الصامتة تروي قصص المرض أكثر مما تفعل الكلمات؟

أؤمن أن أكثر القصص وجعًا لأطفالي لا تُقال، بل تُترك خلفها لعبة صغيرة على وسادة منقوشة بصور أبطالهم الخياليين، أو دفتر رسم لم يُكمِل صفحته الأولى، هذه التفاصيل الصامتة تصرخ، تصرخ بما عجزت قلوبهم الصغيرة عن قوله.

أحيانًا ألمح دميةً تركها طفلٌ فجأة، فأشعر أنها تبكي مكانه، وكأنها تقول: (كان يحاول أن يكون بخير، كان يجيد احتضاني علَّه ينسى الألم، لكنه تعب).

دفتر الرسم بصفحاته البيضاء، ليس إهمالًا، بل صمتٌ ثقيل يقول: (لم أعد أرى الألوان).

هذه التفاصيل لا تمرّ علي مرورًا عابرًا، بل تسكنني، تُعلّمني أن أفهم الطفل دون كلام، أن أقرأ وجعه من أثر حضن، من لعبة بلا يد، من نظرة نحو النافذة، إنها ليست مجرد أشياء بل بقايا أرواح صغيرة، تترك رسائلها لي، لأنني ممرضتهم التي تُصغي لها بكل جوارحها.

 

داخل جدران المستشفى، الزمن لا يتحرك بنفس إيقاع الحياة في الخارج؛ هناك دقائق تمر كأنها ساعات، وأحيانًا تمر أيام بأسرع من حلم، كيف تصفين شعور الانتظار في هذا المكان؟

لا أعتقد أن أينشتاين قد حدَّد نسبية الزمن دون أن يعرف شعور أطفالي، فداخل جدران المستشفى، الزمن يتوقف عند لحظة معيّنة، وكأننا نعيش في عالمٍ آخر، دقائق تمر كأنها ساعات، وأحيانًا تنساب الأيام وكأنها حلمٌ يمر سريعًا دون أن نلتقط تفاصيله، لكن رغم هذا، فإن كل لحظة قد تحمل في طياتها بدايةً جديدة أو نهايةً صامتة تترك بصمتها على القلوب.

الانتظار هنا ليس مجرد وقتٍ يمضي، بل هو أبديةٌ مصغَّرة بين الأمل والقلق، حيث تتقاطع المشاعر، ويصبح الوقت رهينة لنبضات القلوب.

في هذا المكان، لا أحد يستطيع أن يُحدد إيقاع الزمن، لأن كل نبضة قد تعني حياة جديدة تشرق، أو ألمًا غامضًا يغمُرنا.

في الحقيقة، لا أعتقد أن لي حياةً خلف الجدران، بل أرى أن هؤلاء الأطفال هم فعلًا تجسيدٌ للحياة، ولحلم الحياة، ولغة الانتظار هنا هي لغة انتصار، لغة لا يُتقنها إلا المحاربون الذين خاضوا معركة الأمل ضد الألم.

وهكذا، بعدما استمعنا لحديث الممرضة كوثر، أدركنا أن العمل في قسم أطفال السرطان ليس مجرد مهنة، بل رحلةٌ يومية بين قلوبٍ صغيرة تتحدى الألم ببراءة، وبين قلوب بيضاء تُخفي تعبها خلف ابتسامةٍ صادقة، تحاول أن تكون للطفل سندًا في معركة لا تعرف الضعف.

كوثر لم تكن مجرد ممرضة تنفّذ واجباتها، بل كانت صوتًا خافتًا يهمس بالأمل في أذن الخائفين، ويدًا حانية تلمس أرواحًا قبل أن تلمس أجسادهم.

في مستشفى الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) حيث كل غرفة تختزن قصة، وكل ممر يحتفظ بذاكرة، كانت كوثر، وما زالت، شاهدة على معجزاتٍ صغيرة تُكتب بلغة لا يقرؤها إلا من عاش الألم وقاومه.

ربما لا يرى العالم هؤلاء الأبطال الصغار، ولا من يرعاهم، لكن خلف كل قصة شفاء أو وداع، هناك كوثر، وهناك قلوبٌ تمضي أعمارها في معركةٍ صامتة، كل ما تحلم به أن يربح طفلٌ صغير يومًا آخر من الحياة.