الحياه كلمة نطلقها على جزء من مسيرتنا واكتمالها في حياة الآخرة، فبين الصغر والكبر لحظات تتلاشى فيما بينها، وبين عربة طفل صغير وكرسي شيخ كبير بضعة أمتار.
فعندما كنت طفلة كان هناك شيخ كبير في السن, جسده صرعه المرض والخطوط لم تترك من وجهه جزءاً صافياً دون أن يترك الزمن أثره عليه، كل خط يحكي قصة من القصص التي تراكمت على عمره الذي مرت عليه عقود طويلة.
فهذا الشيخ الكبير عاش كثيراً من قصص الحب والألم والفقدان والحزن وذاق منها على حدٍ سواء، فلو فتحنا ألبوم ذكرياته لحكى لكل صورة منه أدق التفاصيل، وقد دون مشاعره تجاهها في دفتر أشعاره الذي يتلمس منه المطلع عليه صدقه فيه رغم قلة خبرته فيه وبساطته في الكتابة.
هذا الشيخ الفقير كان يحكي لنا القصص عند كل صباح، ويسعد الآخرين، ثم يمضي في طريقه إلى كوخه الصغير الذي يدل على أن صاحبه كان يتأهب للرحيل عن هذه الدنيا, فقد كان كوخاً متواضعا جدا يفتقر إلى الحياة نفسها, حد أن يتراءى لمن يراه أنه ينتظر صاحبه أن يرحل لكي ينهار بعده, فلم يكن يحميه من البرد أو الحر ولا يمنع تساقط المطر عليه من الثقوب والتشققات التي أصابت سقفه وكأنه كان معدا لسكنه للفترة القصيرة التي بقيت من عمره.
جاء نبأ وفاة الشيخ في صباح شتائي شديد البرودة وكأن السماء آثرت أن تحميه من تساقط المطر عليه في الليل لكي يذهب إلى قبره الذي يمنع عنه المطر. كنت طفلة صغيرة في ذلك الوقت لكني أتذكره جيدا، كان شيخاً حُرِمَ من نعمة الأولاد فاتخذ من أولاد القرية أولاداً له. وقد قرر العيش وحده بعد أن توفيت زوجته.
عندما أحضروا جنازته تملكني هاجس لم أستطع مقاومته, كنت أريد فقط تقبيل يديه, تأملت وجهه الذي ملأته التجاعيد ورأسه الذي غزاه الشيب ,كانت الطمأنينة تعلو تقاسيم وجهه وتجاعيده, أحسست أنه كان جدي الحقيقي, فعلاً كان شخصاً رائعاً يهدي من بؤسه أملاً للآخرين في الحياة, لازلت أشكك في مقولة فاقد الشيء لايعطيه كلما أتذكره, لازلتُ أذكر كوخه الصغير عندما دخلنا إليه بعد وفاته.
كان يضج بالذكريات بدا وكأنه متحف أثري، كان يغطي كتبه حتى لايتلفها المطر، أوراق ذكرياته كانت على طاولته فتحتها أحدها رأيت عنواناً خط بالأعلى الجلسة الأخيرة قرأتها: (هاهي تجلس في محلها من جديد لكن بلا جسد، تنظر إلي بحب, تأتي من بعدها المرأة العجوز لتجلس جنبي تمسد رأسي.. رائحة أمي.. كف أمي سقطتْ دمعتي أبكي يتماً، كف كبيرة وُضِعت على رأسي أنها لأبي سحبتها قلبتها أشكي فقرا.. تعباً.. شقاء
وضعتها على قلبي ثم حانت لحظة اللقاء)
نظرتُ للأسفل إلى التاريخ المدوّن يوم وفاته!
الآن علمت إنه نشأ يتيماً، تذكرت كيف كان يجمع اليتامى ويتجوّل معهم على ضفة النهر، كان فقيراً لكنه كان يساعد الفقراء ويمدّهم بالمال، كانت دموعه تغرق أوراقه بالرغم من أننا كنا لانرى غير ابتسامته، أخذت الدفتر ثم عدتْ إلى منزلي متخذة من جدي العجوز أنموذجاً أحتذي به في أعواميَ القادمة.
هاجر حسين
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري