كانت التاسعة صباحا بتوقيت كرينتش ، كنت أقف على سلم الطائرة التي هبطت لتوها في ساحة مطار لندن سيتي !

نعم ، كنت واقفة ، فخطواتي لم تعّني على النزول حيث تغمرني الدهشة لهذا العالم الجديد ، والخوف والقلق اخذ مأخذه من تفكيري ، فقد تركت عالمي هناك ، أهلي ، أقاربي ، تقاليدي وعاداتي !

وتساءلت بوجع ...

هل سأحافظ على حجابي ؟

هل سأندمج مع عادات هذا البلد؟

هل ستفقدني الغربة ما نشأت وتربيت عليه ؟

وكان الهاجس الأهم الذي راودني هو ماذا سيحل بصلتي بالله والتزامي بعقيدة أهل البيت ؟

هل ستسرقني الغربة من الله أم سيكون ملاذي دون سواه ؟

آه من هذه الأفكار التي أرهقتني ...

بينما كنت اغرق في بحر الظنون والترقب ، وإذا بيد تلامس كتفي .

أنها يد زوجي وهو يشد على كتفي بقبضته الحنونة . محاولا تهدءتي ! عيونه كانت تهرب من نظراتي ، فقد كان يعلم انه حملني ما يفوق طاقتي ويعلم أني غامرت من اجله وجئت معه لمدينة الضباب ليكمل دراسته ، ويحقق حلمه ، لأني أحبه ولان سعادته كانت منتهى رغبتي بالحياة ، لذلك لم أفصح بمخاوفي أمامه ، ولم أشاء أن أكون عائقا أمام طموحه ، فما زالت كلماته تجول في خاطري .

قالها لي كثيرا ...

أريد أن أحقق حلمي ! أريد أن اثبت ذاتي !

وها أنا ارافقه دون تذمر ، وابتسامتي التي رسمتها بصبر على وجهي لم تكن تفارقني ، أردت أن امنحه السعادة ، ولكن في داخلي كان هاجس الغربة يرعبني وغياب عيون الأحبة يقتلني ، كنت بين نارين نار الغربة ونار غياب الأحبة .

بدأت اعد الأيام وأحيانا اعد الساعات ، حتى صرت جسد بلا روح ...

قالوا لي انك أصبت بالحنين للوطن ، لم افهم حينها هل الحنين للوطن داء وعلي الشفاء منه ؟ وإذا كان كذلك ، فمن الأفضل أن أبقى مريضة بحب وطني !

لكن كان هناك ثمة متنفس يهون علي مرارة الأيام ...

أنه صوت أمي الحنون وهو يخفف همومي ، إذ أنها كانت دوما تذكرني بقراءة القران وتخبرني بأنه شفاء من كل داء وراحة للنفس مهما حملت من الم وعناء .

ها هي الليالي الباردة تمر وها هي السنين الثقيلة تمضي ، وأنا أحفظ وصايا أمي ، ملتزمة بحجابي ، سائرة على خطى الحوراء عليها السلام ، استمد قوتي منها ، واحيي مواسم الفاجعة في شقتي الصغيرة .

صرت أما لأجمل طفل رأته عيني ، وهو ما خفف عني كثيرا ، لكن أبدا لم ينسيني حلم الرجوع .

ها هو حلمي بدأ يقترب مع إكمال زوجي لدراسته ، وها أنا استعد لوداع سنوات الغربة ، وأتخيل الطائرة التي ستحملني إلى ارض الوطن وديار الأحبة بين أهلي وذكرياتي الجميلة ، وفجأة يأتي زوجي ليصعقني بذلك الخبر ...

قال لي بصوت حازم : " نحن لن نعود ، حياتنا هنا أفضل ، مستقبل طفلنا هنا في لندن !!! ، عليك أن تضحي " .

لم يخاطبني بهذه النبرة من قبل لدرجة انه تجرا ليسألني ألا تعرفين معنى التضحية  ؟

ومن غيري يعرفها ، وهذه السنوات التي مرت علي ، ألا تُعّد تضحية .

لكني أدركت حينها أن الحياة تحمل لنا الأقدار وليس نحن من نصنع أقدارنا !!!

تعلمت أيضا بهذه السنين قيم الحياة وشريعة الأمومة التي تتجلى بالعطاء !!!

كان عزائي الوحيد وأكثر ما هون علي الأمر ، إني كنت اقرب إلى الله .

فاتخذت قراري بأني سأضحي للمرة الثانية من اجل ابني وسعادته واحترمت رغبة زوجي وسلمت لله ذلك لأنه مالك نفسي ومدبر أمري .

ايمان كاظم الحجيمي