في زحمة تلك الرياض الغنّاء وبعد الجلسةٍ العلميّة المائزة لذلك الملتقى النسويّ المبارك لم يعد يشغلني شيئًا سوى تلك المجلّات التي اصطفت على جانبي المكان كأنهنّ سنديان زهور تجذب بعبقهن القارئات لاستنشاق عبير الأقلام الولائية والأحرف النورانيّة، فبدأتُ أتصفح واحدة تلو الأخرى وأمعن النظر في بعض نصوصها التي أخذت تحلّق بمشاعري على أجنحة حروفها البيضاء لأسرح في مصائب آل محمّد فأوضّئ وجهي بأدمعي وأقول:
_هنيئًا لهنَ
لقد سرقني الوقت، وإذا بأختي تناديني:
_أڤيان
لندخلَ لقد ابتدأت الجلسة البحثية الثانية
_لا، دعيني أقرأ
لقد عادت أختي إلى القاعة لاستئناف جلساتهن البحثية وأنا لاستئناف قراءتي كالنّحلة أتزود من رحيق هذه المجلة وتلك وأنا في دهشةٍ ممّا أقرأ حتى قادني قلبي قبل أنظاري إلى تلك المجلّة ذات الرداء الأسود كأنّها خيمة من خيام العاشر من محرّم تنبئ عن الحزن الذي كان يساورها، فسحبتها برفقٍ، وجلستُ أدققُ في أزقّة صفحاتها التي خطّها القلوب الفاطميّة ما إن وصلتُ إلى تلك الصحيفة من باب القصص التي كانت بين قوسي بكاء (أولُّ ليلةٍ من ليالي اليتم)
لقد كان وقع عنوان القصّة على قلبي كرفرفة جنحي حمامةٍ ذبحت توًا، لا أدري ربّما قادني من حيث لا أشعر إلى تلك اللّيلة التي اجتازت فيها أمّي السماوات السبعة نحو الرّب من دون براق، لا حيلةَ لي غير إنّي أبدأ بلملمة أطراف الوجع التي بدأت تنبثقُ من أول سطرٍ وأنا أقرأ:
في الثالث عشر من شهر جمادى الأولى وفي تلكَ الساعة تحديداً وبعد عودة أبي من مواراة أمّي في منتصف الوجع كانَ أولّ جسدٍ يسيرُ عاريًا من روحه، دخلَ ورأسه أشعث متكئًا على كتفهِ الأيمن والتراب يغطّي محياه، يتتبعُ رائحةَ أمّي الزكيّة التي ما تزال تملأ منزلنا الصغير كعمرِها وقلوبنا أيضًا، ينهضُ ... ويجلس، يتكئ على جدار الحجرة الآيلة للسقوط من الحزن إلا من صبره، يبحث عن مصباح روحه، ولم يجد سوى غبار الحقيقة يلملم عينيه من قامة المكان وهو يحاولُ ألا يخطئ هدفه.
ما زلتُ أتذكر الهدوء الذي كانت تتحلّى به المدينة العاجزة في تلك الليلة الآمنة إلا علينا، لا شيء في أفق أحداقنا الدامية سوى صورة أمّنا، ها هو أبي قد دخل حجرتهما يتعثرُ بأحزانه بعد أن أنهى رحلة بحثه العقيمة ونحن كنجومٍ باهتة لا حيلة لها سوى اتباع خطواته من حجرة لأخرى علّنا نحظى بوميض أملٍ يقودنا لاحتضانها، غيابها ينعى بداخله، كان مثله كمثل نوحٍ كلّ هذه الأرض ماء إلا أنّه من دون سفينة، وضع رأسه بين ساقيه واستأنف بكاءه حتى علا صوته في مآذن السماء وصداه في الأرض بكائنا، لا يكلّم أحدًا ، فهذه المرّة الأولى التي أرى فيها أبي بهذه الصورة تتساقطُ دموعه كالرّطبِ في فم ثيابه وتغصُّ بالحقيقة
رحلت فاطمة!
ما زلنا نبكي، لا ندري على أمّنا التي غادرتنا أم لأبينا المقتول حزنًا لفقدِها؟ لم نفعل شيئًا غير أنّنا وقفنا بباب حجرتهم نتكئ على بعضنا البعض وأنا أبصرُ وجهه من بعيد، وأتساءل:
-هل هذا أبي؟!
فأخذتُ أرى ما لا يُرى، رأيتُ فيه الماضي ووجع الحاضر وغربة المستقبل ووحدته وأودُّ لو أنّي أغادرُ الحياة حيثُ هي نائمة بآلامها لكن كلّ شيء يسحبني إلى زاوية المستحيل وأنادي:
-أمّاهُ، يا فاطمة، لم يكمل القلب بكاءه، حتى سمعنا أول بحّة للكلام من أبينا، قال:
-أحبّائي ادخلوا
فأخذتُ أسحبُ نفسي حيث أبي بأخي وأختي، نتعثرُ بأذيال همّنا لا شيء يجلي صدورنا سوى البكاء ولكن لم يعد لدينا ما يكفي منه، فأخذ يضمّنا إلى صدره واحداً واحداً، لقد تكسّر زجاج الحلم بحجر الحقيقة المؤلمة، لكنّه ضمّ أختنا (زينب) بشدّة وأخذ يقول:
_آهٍ يا زينب
وعاودَ البكاء ثانيةً، فأخذت دموعه تقبّل رؤوسنا وتقدّم لنا العزاء بأمّنا حتى غفونا في أحضانه تلكَ اللّيلة ولن تغفو جروحنا عليها حتى اللقاء.
ما إن انتهيتُ لم أعد أشعر بشيء من حولي غير إنّي غارقة في طوفان أدمعي والوجع يخطو بي نحو بيت مولاتي فاطمة في ليلة الفقد المبللة بماء اليتم، عابرة حدود وجودي إلى سدرة الأسى؛ لأشاطرَ سيدي علي وسادتي البكاء حتى أموت على أعتاب آلامهم دمعة دمعة.
المرفقات
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري