(كيفَ نَصل؟) يمكننا الجزم بأن هذا السؤال يُعتبر قُطبُ رحى المناهج الأخلاقية والفلسفية مُنذُ بداية الخَليقة وحتى اللحظة الحالية، والذي اتّسمَ بقابليتهِ على تغيير شكلهِ الخارجي مَع حِفاظهِ على المَضمون في كُل عصر، بدايةً من قُربان هابيل الذي قام على الإخلاص واليقين والذي أجاب بهِ عن سؤال الوصول، وختاماً بمسألة تطوير الذات والتي تَفشت في عصرنا الحالي بهيئتها المُكتملة ولكن ..غير المُتكاملة.!

فحاجة الإنسان المُلحّة إلى الاكتمال والتي تدّلُ على فطرتهِ السماوية، هي مَن تقودهُ إلى البحث الدائم عن الطُرق المُختصرة التي تَفي بالغَرض، وهذا بالتحديد ما قامَ عليهِ سّعي العلماء والفقهاء في البحثِ عن جذوة الانطلاق والذي كان نتاجهُ : وجوبُ الظَفرُ ب(القدوة).

فالرحلة الأرضية ما هي إلا رحلةُ اجتياز الذاكرة المؤقتة والعودة إياباً نحو النسخة الأولى والتي كانت في أوج الكمال، والتي يحتاجُ الإنسانُ فيها إلى نموذجٍ يعرف الطريق ليقتدي بهِ، قال تَعالى :"فذكّر إنما أنت مّذكّر"، فالذكرى هي بِداية الخريطة، ولكنَّ السؤال الذي لا يُطرحُ عادةً هو: هل تؤخذُ القدوةُ بالإتباع أم بالمقارنة؟

تميّز المَنهج الإسلامي على وجه الخصوص بطرح موضوع القُدوة بآلية العَرض والتي اتبّع مِن خِلالها منهج الإشارة إلى الشروط التي يجب توفّرها في القدوة أولاً وهي الخطوة الأهم، ثم انتقل إلى إسقاط الفوارق غير الإنسانية بين القدوة والمجتمع حتى يتسهّل موضوع الإتباع ومن ثم الاقتداء، فكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قدوةٌ تتّبعُها الأمة حتى مِن قَبل المَبعث لأنّه كان يُذكرهم بالنسخة الصالحة التي يُمكن أن يكونوا عليها إذا أرادوا ذلك من دون اللجوء إلى مبدأ المُقارنة وهذا ما استمر عليه الأئمةُ (عليه السلام) من بَعده.

القدوة كمّا عرفّها الحسين (عليه السلام)

أسسّ الإمامُ الحُسين (عليه السلام) أشهر منظومة أخلاقية رّصينة تمثّلت بصحبتهِ الصالحة والذين قال عّنهم: "اللهم إنّكَ تَعلمُ أنّي لا أعلمُ أصحاباً خيراً مِن أصحابي.."، فلقد نالوا على سُلّم المُفاضلة في ذروتهُ وتمكنّوا من الظفرِ بأعلى مراتب الخلود وهو الخلود الأخروي والخلود إلى اللحظة الحالية وما دونها، فعند الخوض في غمار السيرة الحسينية، نّجد أن الإمام الحُسين (عليه السلام) اقتدى بنهج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) برسم القدوة في ذاته من دون الحاجة إلى مُقارنة صّحبهِ بِنفسه أو بمن سّبقهم من صحبة النبي (صلى الله عليه وآله) و أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلقد قامت السياسة الحسينية على استنطاق الفطرة في دواخل مُحيطها من خلال لَمسهم لعاقبة إظهارها في أنفسهم كما كانت في شخصية إمامهم الإنسانية وليست شخصية العِصمة، فلم نجد نَصا أو حَديثا أو خُطبة تَدعوا إلى أن يكونوا كالمَعصوم من باب المُقارنة، لأن لُغة المُقارنة تُحفز شعور الإنسان بانتقاص نّفسه والجحود على المجتمع وقد تُبرر لديه الغاية الوسيلة، لذلك كانت لُغة تطوير الذات هي لُغةُ الإتبّاع عند الإمام الُحسين (عليه السلام) وبقية الأئمة، فالإتباع يُتيحُ للفرد اختيار طريقهِ بِحكمة وإبراز مواطن القوّة في شخصيته بشرط أن يكون المُتبّع حَسنَ العاقبة وإلا فلا، فلم يكن يوماً تحقيق الذات وتطويرها من خلال إبرازها بشتّى الوسائل على حساب الغير، أو جعلها محور الاهتمام دون المُحيط، فالإتباع هو الدعوة إلى التوازن وتفعيل دور العقل في اختيار مَعنى الحياة، والأهم أنّهُ لَن يَبدأ من دون حُب القدوة، قال تَعالى:"إن كُنتم تُحبون الله فاتبعوني يُحببكم الله"، وأخيراً... قُل لي مَن قُدوتك أقل لَك مَن ستكون..مُخلّدٌ كصحبِ الحسين (عليه السلام) أم خائفٌ ريبَ المَنون.