من الأمورِ البديهيّة إنّ مُعظم مَن سيقرأ مقالنا هذا قد طرق مسامعَهُ واسترسلَ إليهَا مقولة

(لا ضرر.. ولا ضِرار، لا إفراط.. ولا تفريط)

سِواءً في الكتب التنمويّة والأبحَاث أو حتى منصّات التواصل الاجتماعي في منشورٍ عابر أو على لسان أحدٍ ما في الطرقات إلا إنَّ القلّة القليلة منّا من لديهم الإحاطة التامّة أو الجزئية بالجوهر الحقيقي الكامن الذي تحتضنه هذه العبارة في كنفِها.. ولكي يُفتَح لنا المجال لِنكون وسط هذهِ القلّة وأوساطهم يجب علينا أن نغوص في غَور هذا المفهوم وشذراتِه

ذات مرّة لفتتني مقولة لِكاتبٍ قال فيها ما مفادهُ (اسعى لتصل، حتى وإن وصلت ممزقّا لذّة الوصول سترممك)

بعدها بفترة سرق انتباهي نَص صغير على موقع الانستغرام كُتِب فيه الآتي (منذ طفولتي وأنا أصل إلى ما أريد، لكنني أصل وأنا مُنهَك بالقدر الذي لا يجعلني أفرح وكأنني أُريد ان أصل لأستريح.. أستريح فقط)

ما مدى تناقض هاتين المقولتين؟

في واقِع الأمر، لو جمعنا مجموعة من الخلائق، بشرط أن يكونوا من أجناسٍ وأعراق مختلفة ومتباينة وطرحنا عليهم سؤالًا واحدًا (ما مفهومك للنجاح)

فنسبَة ٩٥٪ منهم سيجيب العمل الدؤوب والقلّة القليلة التي تعادل ٥٪ سيكون جوابهم هو الموازنة بين جوانب الحياة بصورة لا تُتيح لأحد الجوانب الإفساد عَلى الجوانب الأخرى.

والجواب الأخير هو مِحور وثمرة بحثنا هذا من الأمور المؤسفة في زمننا الحَالي، هو اللانِظام المتفشي في حياة الإنسان العامِل بصورة خاصة، غير العامل بصورة جانبية فنجد الكَثير من موظفي الشركات وأصحاب الكادر التدريسي والمِهن الطبية وما إلى ذلك يزدحمون على مراكز الصحة النفسية والعيادات كَنتيجةً لِنظام حياتهم المغلوط والذي رجّحوا فيه العمل عَلى سائر جوانِب الحياة الضرورية ومُتطلّباتها العامّة مثل الصحّة البدنية والنفسية، والهوايات الترفيهية وإهمال الجانب العائلي وتناسي تخصيص وقت لِممارسة الأنشطة العائلية مما يضعضع الترابط الأُسري بين أفراد العائلة الواحدة مما يؤدي إلى انزواء كل فَردٍ مِنها نحو التفكك.

ووفقًا للإحصاء فقد بلغت حصيلة الموظفيّن من ذوي الجنسيّة اليابانيّة الذين يقدمون عَلى الانتحار نتيجةً لضغوط العمل ما يُقارِب أو يتعدى الألفي انتحاري سنويًا

لدرجّة إنهم استحدثوا شركات مخصصة لمساعدة الموظفين عَلى تقديم طلبات استقالتهم للحد من هذه الحالات وعلى لِسان خبيرة التنمية البشرية لشبكة سكاي نيوز عربية (إن مهمة قسم الموارد البشرية تكمن في إيجاد الحلول لمشاكل الموظفين العملية ولما يسمى بالاحتراق الوظيف)

النجاح بعيدًا عن كماليّات الزمن الحالي والشروط المعقّدة المعوقّة التي فرضوها على الإنسان لكي يُسمّى ناجحًا، من بيتٍ أشبه بالقصور العثمانيّة وشهادات تقديريّة تُباري عدد الرمال على شاطئ المالديف، وعدد ساعات نوم لا تتجاوز الأربعة ساعات يوميًا والعمل (١٥٠) ساعة في الاسبوع، بعيدًا عن كل الترهات السابِقة التي شوهّت المعنى الحرفي للنجاح، فالنجاح بمفهومه العالم والمبسّط يكمن بقدرة الإنسان على تحقيق التوازن في كافّة جوانب حياته لا على تحديد

فأنت يا عَزيزي القارئ إن كُنت محققا لهذا التوازن فأنت أنجح من ٧٠٪ من الناس على هذا الكوكب.

من الضروري تحقيق الموازنة بين كافّة مسؤوليات الفرد فلا يُداخل بين الجانب العملي وحياته الخاصة ولا يجعل أحدهما يطغى عَلى الآخَر، فالموظف عَلى سبيل المِثال.

مهما كان مجال عمّله، حالما تخطي قدماه عتبة مركز العمل خارجًا منه يجيب أن ينسى أيَّ شيء يتعلّق بوظيفته، ويُكرّس تركيزه التام على حياته الشخصيّة الخاصة من هواياتٍ ونشاطات ووقتٍ عائلي، فما فائدة وجوده بدنًا بلا روح مع عائلته وباله مشغولٌ فيما حصل وسيحصل في المكتب ومركز العمل؟

وحتى العادات التي قد نراها بسيطة وذات تأثير محدود كالرد على مسج يخص المهنة أو اتصال بخصوص العمل أثناء الوقت الذي تخصصه لحياتك الشخصية وعائلتك قد يترتب عليه فتح الحدود بين العمل والحياة وتداخلها، ولِنوضّح هذهِ المَفاهيم أكثر فأكثر علينا أن نُحدد بَعض النِقاط التي تُعيننا على تحقيق التوازن بين العمل وكافّة أمور الإنسَان المِهنية والشخصية والصحية وما إلى ذلك.

- أن يضع الإنسان العامِل حُدودًا فاصلة بين عملهُ وحياته الخاصّة كي لا يطغى أحدُهما عَلى الآخر، فحالما تخطي قدماه عتبة المركز العملي يفصل جميع تعلقّاته بالعمل من مُكالماتٍ ومسِجات وتفكيرٍ وغيرُها.

وهذا يشمِل البيت أيضًا فعند دخوله إلى عمله يجعل وابل اهتمامه مُنصبًا عَلى كيفية أداء عمله بِأمانَةٍ وإخلاص مُتناسيًا كُل ما حدث في بيتِه.

- أن يُجدول مهامه اليوميّة في إطار مُنظّم كي لا يضيع وقته بِصغائر الأمور فيضع وقتًا محددًا لعمله ووقتًا لعائلته ووقتًا لنفسه يسترجِع به ما اسُتنزف من طاقته وصحته النفسية والصحية

- عِندما يشعر الموظف بالإجهاد فعليه مُحاورة مديره لِيمده بإجازةٍ محددة يسترجع بها طاقته ووقوده فما فائدة العمل بلا طاقة، كمَن يُصلي بلا إقبال، فقط لإسقاط الفرض، مما يترتب عليه قلّة جودة العمل المُقدّم، والإرهاق على الصعيد النفسي والصحي والاجتماعي.