‎  القلق جزء متمم للتجربة الإنسانية، القلق ضرورة وتجربة ذات فعالية مفيدة، والذي يسمح بتعلم التكيف والتجريب، ويعلمنا عن حقيقة أنفسنا، ليس علينا أن نعتذر عن أحاسيسنا بالقلق، وليس هدفنا غياب القلق والخوف في هذه الحياة المعترف بأنها غير مستقرة أو ثابتة على وجه الأرض، ومع هذا وجب أن نحافظ على القلق في حجمه الطبيعي ومكانه، ويمكننا أن نتعلم الدروس المستفادة منه دون أن نسمح للقلق بالهيمنة على تفكيرنا وأحاسيسنا اليومية.

‎  والقلق هو أحد الانفعالات الطبيعية التي لا بد أن أيا منا قد شعر به في ظرف ما وهو إحساس داخلي ذاتي نستقبله في داخلنا وقد لا يمكن لنا تفسيره، فهو يعتبر أحد الانفعالات السلبية غير المرغوبة بها مثل الألم، والنفور، والقرف ورغم أنه في بادئ الأمر يكون مجرد احساس داخلي إلا أن بعض التغييرات المصاحبة له تسبب ظهور علامات ملموسة هي مظاهر القلق التي يمكن أن نلاحظها ويراها الآخرون من حولنا، لكنه يظل في نطاق العواطف والانفعالات الطبيعية طالما كان استجابة مناسبة لموقف محدد، فهو بذلك لا يختلف عن غيره من المشاعر الإيجابية والسلبية المعتادة مثل شعور السرور المصاحب للحظات النجاح والارتياح نتيجة تحقيق إنجاز والألم بعد ارتطام عنيف وكذلك شعور الجوع والعطش، والسؤال الآن: متى إذن يصبح القلق ظاهرة مرضية؟

‎   يجدر بنا أولاً أن نفرق بين الخوف والقلق المرضي والقلق والخوف الطبيعي أي الفيزيولوجي فالقلق هو إحساس نفسي بالضيق مصحوب في أغلب الأحيان بتغيرات فيزيولوجية في أداء وظيفة معظم أعضاء الجسم، والقلق الطبيعي قد يسبق أو يصاحب أو يتبع لبعض الوقت المواقف التي يتعرض لها الإنسان في ذاته لخطر حقيقي، وهو ضرورة فيزيولوجية يتمكن بواسطتها الإنسان من مواجهة الأخطار أو تفاديها كل حسب استعداده النفسي وتركيبه الفيزيولوجي، والقلق الطبيعي ليس مقصوراً على الإنسان بل الحيوان وحتى النبات ويدخل فيما يسمى بغريزة حفظ الذات.

‎  وقد وصف القرآن الكريم مختلف درجات القلق والخوف الطبيعي مع ما يصاحبها من أعراض عضوية في الجسم، ما لم تزد عليه كتب النفس اليوم شيئاً، إلا في التفاصيل وهذه الدرجات هي تصاعدياً:

 الضيق النفسي: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبِّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِين} (الحجر: ۹۷– ۹۹)

 الخوف: {أَشِحَّةٌ عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أعْيُنَهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} (الأحزاب: ۱۹).

 الجزع: (قلة الصبر): {إِذَا مَسَّهُ الشَّرِّ جَزُوعاً} (المعارج: ۲۰).

الهلع: قلة الصبر مع شدة الحرص في كل شيء {إنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وإذا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً. إلا الْمُصَلِّينَ} (المعارج:19– ۲۲)

‎الرعب: أعلى درجة من الهلع {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبْتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَألْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} (الانفال: ۱۲)

‎الفزع: (الذعر): أعلى درجة من الرعب {لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (الأنبياء: ۱۰۳)

الذهول: حالة ضياع عقلية خفيفة، نتيجة الخوف الشديد: {يَا أَيُّها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْل حَمْلَهَا} (الحج: 1-2)

‎سكارى: أي ضائعين، حالة ضياع عميقة نتيجة الخوف الشديد: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهُ شَدِيدٌ}  (الحج: 2)

‎  هذا الخوف الطبيعي أمام كل شيء مجهول، أو مخيف، يهدد الإنسان في ذاته ووجوده، ليس مقصوراً فقط على العامة من الناس، بل اعترى بعض الأنبياء عليهم سلام الله أجمعين، فإبراهيم وموسى وداود ويونس اعتراهم في بعض المواقف شيء من هذا الخوف الطبيعي، كما جاء في قصص القرآن الكريم: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشِّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} {إذ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ، قَالُوا لَا تَخَفْ}

ولم نجد في القرآن الكريم والكتب أي إشارة إلى هذا النوع من الخوف الطبيعي، عند الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، ما عدا بعض الضيق من إيذاء المشركين وإعراضهم عن رسالته.

  أما القلق والخوف المرضي فيمكن تعريفه: وهو حالة شعورية بالضيق مصحوبة بانعكاس عضوي على وظيفة أغلب أجهزة الجسم من تسارع ضربات القلب، وضيق في التنفس، واضطراب في عمل جهاز الهضم والاعصاب والعضلات، وعملية إفراز الغدد وغيرها، فالخوف والقلق النفسي المرضي في جذورهما ومنشئهما واحد وهو الخوف من المجهول وبدون أي سبب ظاهري منطقي معقول بالنسبة للمريض (وهذا ما يزعجه أشد الإزعاج ولعل أبلغ وأوجز تحديد وتعريف حسي للراحة النفسية والخوف النفسي هو ما أشارت إليه الآية الكريمة التالية : {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرِجاً كَأَنَّمَا يَصْعَدُ في السَّمَاءِ} (الأنعام: ١٢٥)

‎  والقلق هو أكثر المظاهر شيوعاً وازعاجاً ويشكل القاسم المشترك لكل الأمراض النفسية العصبية، وأغلب الأمراض العقلية الذهنية، واضطرابات الشخصية و۷۰ ٪ من الأمراض العضوية يكون مصحوباً بالخوف أو القلق الظاهر أو المستتر.

  لقد أصبح القلق في عصرنا الحالي هو القاعدة، حيث أصبح الانسان يعيش حالة دائمة من التوتر، وقد استسلم لهمومه المتعددة التي بدأت تحول بينه وبين شعور الارتياح والسعادة، فلم يعد بوسعه الاستمرار في الحياة بطريقة تلقائية بسيطة، ولعل ذلك هو سر متاعبنا.

  لقد استطاع الانسان عن طريق التقدم الطبي تحقيق الكثير فيما يختص بعلاج الكثير من الامراض النفسية، ومنها علاج القلق والخوف لكن في نفس الوقت نلاحظ لا شفاء بصورة نهائية من القلق والخوف والهلع والجزع واضطرابات السلوك بصورة جذرية، فما هو السبب؟

  أرى من زاوية ايمانية، وبحكم التجربة الشخصية المهنية، إن اخفاق بعض تجارب المدارس النفسية التي حاولت معالجة القلق والخوف والهلع وبعض الاضطرابات السلوكية من زاوية بيولوجية أو تحليلية وضعية دون الأخذ بتعاليم الله تعالى.

فيجب على كل مريض عصابي الاخذ بشيئين للشفاء من كل اضطراب هما: وصفة دنيوية موقوتة المفعول من أهل الاختصاص في الامراض النفسية (طبيب، معالج، مستشار نفسي)،

ووصفة روحية إيمانية من خالقه، هي الالتزام بتعاليم المولى وهي وصفة جذرية الشفاء مصدقاً لقوله تعالى: {َإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (اليقرة: 38)


المستشارة النفسية أنفال سليم مرزة