فن اليوميات الصحفية

أعترف بأني لم أجرؤ قبل اليوم على الاعتراف بالوجه الآخر للحرب... كنت بعمر الخمس سنوات حينما اشتعلت حرب الـ 91 في سماء العراق, ربما وعيي الطفولي آنذاك لم يكن مستوعبا لكل ما يدور حولي, غير إن ذاكرتي بئر عميق احتوى كل صور الخوف والرعب والترقب... وحتى مشاهد الحب والأمان!

مع بدء إعلان العدوان كنا في منزلنا نتجمع حول المذياع ننتظر ترجمة أبي للأخبار بلغة يمكننا أن نتقبلها, لا سيما وأنا وأخواتي كنا صغيرات جدا على إدراك ما وراء الحرب أو بمعنى أصح إدراك ماهية الحرب نفسها.. وبعد مدة قصيرة رأيت أمي تحزم الحقائب وتحاول أن تجمع كل ما يمكن حمله من مواد غذائية, لم أكن خائفة بقدر ما كنت متحمسة للرحلة حينما عرفت إننا نستعد للذهاب إلى بيت أحد الأقارب في محافظة ديالى, وفعلا لم يمر وقت طويل حتى وصل زوج خالتي مع عائلته بسيارته نوع (بيك آب دبل قمارة), ومن هنا بدأت مغامرة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للكبار وفيها شيء من المتعة بالنسبة لنا نحن الصغار, على طول الطريق يحاول زوج خالتي أن يبث فينا روح المرح بدعاباته المصطنعة؛ ربما.. كونه يخاف من احتمالية اصابتنا بالهلع من أخبار الحرب وما سنتعرض له من قصف جوي في قابل الأيام؛ لذلك كان كل من حولنا يحاول بطريقته الخاصة أن يخفف علينا وطأة الأحداث آنذاك.

 ما هي إلا ساعات حتى وجدت نفسي وسط دار مليء بالناس, منهم من أعرفهم؛ بقية أقاربي, ومنهم من لا أعرفهم, ومن كل الأعمار, وفي تلك الدار البسيطة لي ذاكرة أعجز عن طويها في صفحات النسيان, عدد كبير يتشارك مائدة طعام واحدة, دخول الحمام بالدور والجدول لقلة الماء والقلق من انقطاعه بعدما تضررت بعض محطات الإسالة, غرفة للنساء والأطفال ننام فيها بشكل مرصوص وكأننا في علبة سمك سردين, النوم بعد المغرب مباشرة بأمر من الكبار لم أكن أعرف مبرراته وقتها سوى إنه قرار تعسفي, فهمت لاحقا رغبتهم بحمايتنا من صوت القصف الذي يشتد ليلا لاسيما وهم يضعون القطن في أذاننا بعد أن نخلد لغفوتنا البريئة, ونحن نحلم بالعودة لحياتنا الطبيعية والخلاص من هذا الكم الهائل من القلق والخوف من الموت تحت الانقاض.

بالرغم من كل ما ذكرته... توجب عليّ الاعتراف بالوجه الآخر للحرب, هو الوجه الأقل بشاعة وربما شبه الجميل؛ لأننا عشنا أيام فيها من الألفة والحب ما يكفي لشحن أرواحنا بالأمان, ففكرة الموت وحيدا هي أقسى انواع الأفكار مع اقترابه, لكن يمكننا تقبل الموت ونحن في أحضان من نحب؛ بدليل إني كنت أفكر بذلك وأنا لم أتجاوز الخمس سنوات حينما كنت أتوسد أحضان أمي لأنام أو أتظاهر بأني نائمة.. وغير ذلك طعم الزاد الذي يبدو شهيا حتى وأن لم يكن كذلك بسبب تجمع الأيدي على تناوله وسط الضيافة والكرم من رب البيت الذي اقمنا فيه لمدة 14 يوما, والأهم من كل ذلك ما يتعلق بالرفاهية, فكان للأطفال حصة كبيرة من الاهتمام بتخصيص وقت من أحد الأقارب بتعليمنا الحروف والأرقام وممارسة بعض المسابقات بشكل مسلٍ وجوائز قيمة عبارة عن عدد من حبات التمر, الحروب دروس قاسية جدا, قاسية للحد الذي قد لا يمهلنا الاستفادة منها, لكن من يخرج منها سالما يتعلم إن أبشع ما في الحياة هو الخوف, وأجمل ما فيها الأمان.

إيمان كاظم