وصلتُ ومنتصفَ اللّيل إلى حلقةٍ مفقودة، استدعتنا معاً للتّأمل ساعةً، بعد أن قطعنا مسافة لابأس بها من الضّجيج الصّامت، و بعد أن مررنا على مقاطع مزدحمة من التّأريخ و حين وصلنا كنتُ أشعُر بإرهاقٍ روحيّ، رغم ذلك لم تبرح التساؤلات قلبي و فكري، ولم أكن قادرة على  طرد مخاوفي الذهنيّة بتاتاً.

حتى تسلّل لمسمعي صوتٌ رهيفٌ.. رقيقُ شفيق.. لا أكاد أسمع له إلا همساً؛ جذبني.. وبدّد كل تشنجي ومخاوفي الدّخيلة فقال:

  • "لقد غاصت، ثُمّ غاصت.. ثُمّ غاصت، حتى استخرجت دُرَراً مُخبّأة من قعر الأوراق، و نثرت حبراً ما برح يُحيي فِيّ البهجة".

أثار استغرابي ما كان ينطق، فسألته:

  • "من تعني ؟ "

أنّ بخفاءٍ ثم قال:

  • "بعدَ أن مرّت في ظلماتها الثّلاث، جاءت ؛ وكانَ اسمها إسماً نبويّا..

كان كفيلاً بأن يُرسل لي ذرّات نورٍ فتخترق ظلماتي و تُشعرني أنّني بخير ، في ذلك الحين نُبِّئتُ أنّ بها سيبدأ فصلٌ جديد، لا يشبه أي الفصول الأخرى السّالفة،  وتشبثتُ بهذه البشرى كثيراً وما زاد تشبّثي، أنّ بُشراي يتيمة"..

كان يحكي، وشعرتُ أنّ أملاً دنا مني، و بحديثه المملوء بالشّجن والذكرى بدا وكأنّه يمسك بزمام قلبي، حتى أحسستُ الدفء الكامن خلف حروفه المُرهقة، نعم كانت مرهقة جداً، لم أشأ أن أقاطعه فقد فهمتُ أنّه يمر في  شقشقة تزداد هديراً، ولا أريد لها أن تقرّ طلباً للمعرفة.

أكمل قائلاً:

  • "هناكَ في غرفتها الصغيرة، وبين جدرانٍ بسيطة لا يوجد فيها إلا رفوف قديمة كانت قد بُنيت منذ زمن الأجداد، كانت تجلس، أذكرُ أنّ والدتها دخلت، بعد أن أعدّت لها دميةً ناعمة تناسب عمرها، تقدّمت بابتسامة لتعطيها إيّاها، فبدا الوجوم على وجه صغيرتي  و قابلت دميتها ببرودٍ و استغراب، ويديها تقلّبان كتيّبا وهي تحاول تهجي حروفه البسيطة،  فابتسمتُ لفطنتها وفهمتُ أنّ للبشرى حكاية آتية.

       إنّ انتظار النتيجة أمرٌ مضنٍ، لكن التّعب من أجله لابُدّ منه، يشبه كثيراً حال الفلاّح، حين ينتهي من زرع البذور في التراب و ينتظر بترقّبٍ  ليأمن سلامة الحصاد.

وكبُرت طفولتها النقيّة،  و هي مازالت متفوّقة بكلّ شيء ما عدى السّوء والرذيلة، لم تعرف لها سبيلاً ولا طريقا".

 

كان يحدثني، فركنتُ رأسي على كتف الزّمن أستمع لسيرِ أيامٍ لستُ أعرف مداها إلى الآن، أبحثُ عن تساؤلات متراكمة كثيرة، تُرى، هل من الممكن أن تحمل طفلة روح العُرفاء؟ .. كيف لها ذلك وهي في سنٍّ مبكرة؟

إنصاتي أوحى له أن يبوح بالمزيد فقال:

"بين تلكَ الأزقة الضيّقة، التي تفوح منها أنفاس العلماء مرّت ظهيرة يومٍ حار، تمشي و قد أمسكت بيد والدتها الجليلة، محدثة نفسها حديثاً لم يطلع عليه سواي و طال استفسارها عن أفعال مجتمعها المغلوطة، لم يكن يشغل فكرها البريء في تلك اللحظات شيء  سوى البحث عن موارد الحقيقة وعدمها. ومنذ ذلك اليوم، أصبحَت تساؤلاتها تؤنسني ، وحديث وعيها المعهود أصبح يقربني لها أكثر فأكثر، فيزداد شوقي لمرافقتها، لكن لا مناص من الانتظار لمستقبل آتٍ ليفصح لي عنها المزيد، فليس الأمر بيدي ولا بيدها، إنّه خاضع لقانون السماء.

وتكررت أيام الرقيّ، و ازداد حنيني، كانت تشعرني يوما بعد يوم بأني سأفد على عالمٍ ملؤه الرحمة."

 

وهنا توقف هنيئة، حتى خلته تاهَ في مضامين شخصها الملائكيّ، وأن حديثه سيتوقف، أو لعلّه بلغ ذروة الاشتياق فركَن إلى الصمت، وما سمعت منه إلا زفرة شجيّة أردف بعدها قائلاً:

 

" قطعت طريقها بين ضجّة الانحرافات، مستعينةً بأورادِها في محرابٍ تطيل فيه ركوعاً  وسجوداً، كنتُ أنصت جيداً لأماني قلبها الملتَهب بالمسؤولية ، لم أر سوى همّاً كان يعتريه ليل نهار، كان ذلك وجعَ العقيدة، وحرب الشيطان المقامة ضده منذ الأزل، وقد بلغت أوجها.  لقد كانت تبكي بعد أن تهوي خاشعة على سجّادتها البسيطة، تتمتِم بأن يهبها الله قوةً في قول الحقّ، وردع الباطل.

وحينما علمَت يوماً أن ابن  أخيها كان قد رآها  وهي منشغلةً في تهجدها فذكر ذلك عند بعضهم، فسائها أن تُعرف حالها وهي منقطعة بين يدي ربّها، ونبّهته على عدم ذلك مرة أخرى.

وقد حدث أنها بدأت  تقربني إليها، حتى ناغمت قلبي بجميع أفعالها فتيقنت أنّها المرأة الموعودة. ومنذ أن رافقتُها، وهي لمّا تنفك ترتّل كل خيرٍ  على مسامع من حولها، تُرشد هذا، وتوجّه ذاك، تُذَكّر هذه ، وتعلّم تلك وكلّما إزدادت علماً  إزدادت بهاءً  ، وإزددنا قرباً، فهي تعلمُ جيّدا أنني أشمُخُ بالعلمِ والعُلماء،  وما أذكره جيداً أنهّا لم تكن تفعل أي أمر  إلا و نحن في جوّ مشحون بالطهر.

آهٍ يا ابنتي ليتكِ تعلمي كم كانت تشعر بي كلما احتجتها فأجدها مترنمة بوردها المقدّس فتشدّ  من أزري.

كان فكرها  يزداد يوماً بعد يومٍ فيكثر ويتسع، و يبدو كسماءٍ محمّلة بأمطارٍ ما أن يحين و قتها حتى تمطر مطراً غزيراً، وبعد أن تخضرّ أرض الأرواح حتى أراها تُلَملِم فكرها بإتقان لتنثره في مكان أبعد.

وكنتُ أزداد حيرة، و ليتني كان بوسعي استفهام حالها، رغم أني كنتُ أفقه منطقها، لكنني لم يكن بوسعي أن أعبّر كما يعبّر بنو الإنسان، و لم أكن أجد وسيلة حين تسكن وحيدة إلى الألم  إلا البٌكاء معها، فيشتد أنينها، وكأنّها كانت تعي أنني أشاركها الأحزان و أقاسمها الأوجاع.

ومضت أعوام.. وأعوام..

فأصبحت تجاري العُلماء، و تناقش أصحاب الاختصاص، حتى أنّها كانت تتأمل طويلاً في كتب الفقه والأصول، فتناقش في أشدها صعوبة، وإن سألتم كتابيَ الكِفاية والمكاسب ، سيشهدان أن شفاهها الطيبة قد تكلمت بهما كثيراً، و ناقشت بهما طويلاً.

وانتبهتُ عليها ذاتَ يوم، وكانت في  مجلس يضمّ بعض قريناتها، و قد إنشغلنَ جميعهنّ بمحادثة بعضهنّ، إلا هي، كانت غارقة  في صمتٍ و وجوم، و حين دنوت لأدقق في مقلتيها الواسعتين ، حتى إستشعرتُ استبشاراً عجيباً، وما أن أحسّت بقربي، حتى انفتحت أساريرها و شعرت بمساندتي فانبرت قائلة:

  • أعِرنَني الأسماع فعندي ما أخبر به، قد بُشّرتُ قبل ساعة بأنّ الحلم سيتحقق، وسيحل ضيفاً كريما.

قالت قولها ورمقتني بقلبها وقد امتزج دمعها بسرورها..

 و امتزجت الأصوات، بين سؤال واستفسار وتعجب.

يبدو أنّ الجمع لم يعي بعد ما قصدت بكلامها، فأنّا الذي أعدّ روحها شعرتُ بالحيرة لأوّل مرّة، ما عساها تعني ؟

وعاودَت الكلام موضّحة مرادها فقالت:

  • إنّ السّعي قد حُددّ له ميعاد لقطف ثماره، لنطوي عقولاً مليئة بالشّبهات، ونصل مكاناً  يُقذف فيه النّور في قلوب طالبي الحقيقة.

ولمّا تكمل حديثها بعد، حتى استوعبت أنّ حلمها  الذي تمنته منذ سنين أصبحَ على الأبواب، يبدو أنّني سأشهد حدثا  لطالما رسمَت لي ملامحه، مكانٌ فيه يغذّى العقل و تنمو به الرّوح، فقديما أخبرتني أنّنا نسير في طريق كمالٍ، تختلف محطاته، ويجبُ  علينا أن نبذل فيه المهج لنُعطي ونرتقي ونذود عن حمى الدّين.

وما أن سمعت النبأ حتى ازدحمت فيّ المشاعر، ولم أجد بداً الا أن أرتمي في حضنها. صحيح أنّها ما برحت تهيئني  لرحيل مجهولٍ على مدى تلك الأعوام ، لكنّ خبر نجاح مساعيها غلب على تفكيري ، كنت أعلمّ أنّ ما رمت إليه سيكون  شديداً على قلبها لكنني لم أخش عليها إلا من جلاوزة طغاة، حاولوا من قبل محو السائرين على طريق الهداية، لكنّ الله وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بأوليائه رغم كل القيود المفروضة.

وارتفعت تساؤلات من حضرنَ تلك الظهيرة و قد ظهرت على وجوههنّ أمَارات الذّهول والاستنكار، فهذه لما تستوعب بعد، و تلك تخشى على العلوية آمنة من الخوض في هكذا مرحلة خطرة، فافتتاح مركز علميّ نسويّ في زمنٍ يكتظ بضباب الظّلم والطغيان لهو أشبه بالانتحار، إلا إنّها حاولت أن تضخ في أوردتهن ثباتاً وتوكلا، فافتتحت  بُعيد ذلك بأيام ببركتها مدارس الزهراء، ولم تثنها أقوال من حولها بأن عليها مراجعة ما عزمت عليه جيداً، فقد كانت على يقين بأن إضاعة الفرصة غُصّة، و لستُ أنكر أنها كانت ذلك اليوم تكتم اضطرابها، وتخفي مشاعرها التي إن أبدتها قد تتسبب في تراجع ما رامت إليه، وتلك كانت عادتها، فهي ما برحت تتحمّل بصمتٍ وتعطي بفطنة.

لكنّها كانت تعلم جيّدا أنّنا في دار إبتلاء، و عطاء، وحينَ دققتُ في ملامحها ذلك اليوم  بدى لي وكأنّني أقرأ صحيفة مليئة بالإحساس بالمسؤولية، تتناثر منها وعودٌ كانت قد قطعتها لصاحب العقيدة بأنّ الألم في طريق الحق عبادة".

 

وما أن وصل إلى هنا، حتى أدركتُ أنّه يحدثني عن حلقتي المفقودة، يا له من توفيق، حقّا إن من يتوكل على الله يجعل له مخرجا، و يرزقه من حيث لا يحتسب.

 

وقبل أن يعود لإكمال حديثه بادرته سائلة:

  • "أخبرني كم كان عمرها حين ذاك؟ حدّثني هل وصلت إلى هدفها المنشود؟ قل لي ماذا فعلت أكثر؟ "
  • "حباً و كرامة، ألا فأعلمي أنّها لم تبلغ حينذاك أكثر من واحد و عشرين عاماً.."

وقاطعتُه متعجّبة:

  • "مه؟  و هل لفتاة في هذا العمر أن تفكر في فتح مركزٍ علميّ؟ و هل لهذا العمر أن يُدرك مسؤولية عظيمة و يوفّق لها؟"

قال وبكل ثقة :

  • "إنّ الدّهر يستأثر لنفسه من النّساء ما يسدّ به ظمأ المعرفة، و يكون ذلك حين تشتد به  الفاقة، فيسأل الله الخير، و يهبه الله إمرأة على فترةٍ من الجفاف و القحط، لتسقيه بعطائها فتحيي فيه أمة. وأعلمي أنّ ذلك متاحٌ للطالبين الخير، و الراجين من الله الصّلاح في الذريّة، والسّاعين في حسن التربية، فيجعل الله لهم يداً من علمٍ و سطوة فكر ٍ بامرأة كريمة تُستبدل بها المعادلات، ولولا ذلك فإنّ  الحياة ستكون خالية من روح العطاء وأعلمي  أن الله لم يجعل المرأة أسرع إلى التّكليف من الرّجل إلا لأنها تستطيع أن تدرك تكاليفها أسرع و يحتاجها المجتمع أسرع."

 

وطاب لي كلامه الآتي عبر الذكريات، وانبعثت في روحي آمال إمرأةٍ أتشوّق لمعرفةِ كُنه شخصِها، وأعلمته أنّي مستمعة جيّدة فليجد عليّ بما في طياته من عبر، فقال:

" لقد وفِقت بمساندة أصحاب الخير لفتح مدرسة دينية في النّجف الأشرف و الكاظمية المقدسة، ولأنّها نبذت العُزلة، حرّكت النساء نحو الإنتاج والإبداع، و عند الفجر الصديع كانت تتخذ لنفسها سيارة أجرة فتذهب من النّجف الأشرف إلى الكاظميّة لتقضي فيها ثلاثة أيام بعد أن تقضي ثلاثة قبلها في النجف الأشرف، فقط لتراقب عمل تلك المراكز العلميّة، و استدام فعلها حتى خمس سنوات، في وقتٍ لم يكن يسمح للفتاة أن تعدو باب بيتها في مجتمع متشددٍ متزمّت."

ثمّ تأوّه وأضاف:

" لم تكن جلازوة نظام الطاغية في غفلة عنها، لكنّها كانت حذرة، حذرة حد الإعجاز"

وقاطعته سائلة:

  • لم تخبرني عن أي عامٍ تتحدث؟
  • لقد وصلتُ الآن إلى نهايات الخمسينيّات من القرن الماضي.
  • الخمسينيات؟ تعني أنّك تحدثني عن أعتى حقبة ظالمة؟
  • نعم، هي     ذات الحقبة التي بدأت العلوية آمنة تصدر فيها مقالاتها العلمية.

فتساءلت بوجلٍ:

  • بتّ أخشى عليها، كيف امتلكت تلك الجرأة في حراكها الواعي ؟

 

وشعرتُ أنّ الصوت تكسّر في ثناياه، ثم أخبرني :

  • " إنّ العلوية آمنة فتحت عينيها على صرخة الجلّاد، فساعدها ذلك على تفحّص الحال جيداً، لتنطلق نحو التغيير، تغيير المفاهيم، والظواهر، والتقاليد البائسة، فمنذ صباها كانت تُتقن الأختيار وتحسنه، أذكر أنّ ذات يومٍ وصلتها دعوة لحفل زفافٍ، و العلوية آمنة لم تكن تمتلك حينها حذاء لترتديه وتذهب به، وقتها كانت قد جمعت مقدارا من المال لتشتري به كتباً، وحين لاحظت الأهميّة، قدّمت إقتناء العلم على الذهاب إلى مجلس لعله لن يخلو من مظاهر التفاخر و الشّبهات، فزكّت نفسها بكتابٍ، ومن تكن كذلك فهي تمتلك كلّ الجرأة على عدوها، فإنّ من يدحر عدوّ نفسه، يمكنه أن يجابه عدو فكره"

 

  • "ياه، ما أجلّها وأفهمها، وأنقاها، أكمل أرجوك"
  • "كنتُ أخوض صراعاتٍ مع الجهّال، حينما سمعت ذات صببيحة من صباحات النجف الأشرف صوت إمرأةٍ متذمرة من أردتاء الحجاب، فأقنعها البعض على إرتداءه لتتمكن من الدّخول الى الحرم العلوي المطهر، وقد كانت تلك المرأة من  أهالي الموصل، آتية مع جامعتها في رحلة جامعية. وحين دخلت، وأتمّت الزيارة وهي مشمئزة من وضعها الحجاب على رأسها، تناهى إلى سمعها صوت إمرأة  شابّة ذات هيبة، قد إتخذت لنفسها من أحد أركان الحرم العلوي مجلساً، وقد إجتمع عندها بعض الفتيات، فأثار ذلك في نفس هذه المرأة الفضول، حتى دنت منهن وبدأت تستمع، فطرق سمعها شرحٌ بهيج لمعاني زيارة أمين الله ومضامينها العظيمة، وتفاجأت الزائرة  بأنّ  المرأة الملتزمة المتحدثة تتكلم عن مراتب الحب ّوأنواعه في منتهى الرّقة والجمال و العمق، حينها دنَت، ثم دنَت، حتى كلّمت العلوية آمنة،  وقد شَهَدتُ  أنّها تبدلت بعدها حدّ الإلتزام."

 

لم أكُن أعي كيفَ لشابّة في مقتبل العمر أن تمتلك القدرة على التأثير حد الإقناع، واستفسرت عن ذلك فأجابني:

  • " أتستغربين؟ لا عجب فقد كان استغراب بنت الشاطئ أكثر منكِ."
  • "بنت الشاطئ؟ كيف؟ "
  • "في رحلة من رحلات الكاتبة والمفكرة عائشة والملقبة ببنت الشاطئ كانت الوجهة فيها إلى النجف الأشرف، كانت حينها قد عزمت على ملاقات  العلوية آمنة لما أثّر فيها من فكرها الذي كان قد وصلها وحين التقتا سادَ التساؤل كل كيان بنت الشاطئ، فسألت العلوية آمنة أين أتمّت دراستها؟ فأجباتها بسرعة بديهة وبساطة: انا خريجة مدرسة البيت.

فلم تكن بنت الشاطئ تدري من قبل أنّ حوزة النجف تضمّ في أكنافها  عظيماتٍ تستندُ الأمة على مايحملن في أوعيتهن الطاهرة من تقوى ومعرفة.

ولستُ أدري ماكانت تفعل لو سمعت عن السابع عشر من رجب".

  • "وما ذا حصل ؟"
  • "في وسطِ مدينة حامت عليها الوحوش، وبين وقتٍ وآخر تعصف فيها رياح الخطر،فتروّع قلوب مؤمنين مطمئنين، كانت العلوية آمنة تحمل على كاهليها همّ أيامٍ قادمة، ولمّا يزل قلقها على وضع أخيها السيد محمد باقر الصدر قائماً، فأيام إعتقاله الأول عام 1971م  مابرحت تجوب مخيلتها كلّ لحظة، مازالت أصوات زعيق رجال البعث تشعل فيها كل تفاصيل الحادثة، و مازالت ترى كل شيء وكأنّه حدث للتوّ، فركلات الباب الشرسة و اقتحام الدّار الذي لم تُرع فيه حُرمه حيث لم  يكن فيه إلا نسوة و أطفال تعيش معها و تقاسمها لحظات صمتها و تفكّرها، وحينها كان السيد يخضع للعلاج في مستشفى النجف الاشرف.

بعد ماحصل؛ أصبحت ما أن ترمق أخاها السيد بعينيها حتى تبدو وكأنّها تقرأ المستقبل جيداً فتتغير ألوان محياها، و تختزن في قلبها قراءاتٌ مأطّرة بجراحات،  لم تبح بها إلا منتصف ليلة السابع عشرمن شهر رجب  والتي وافقت عام 1979م و وقد  أعقبت تسعة أشهر من تقلبات تشبه كثيراً وعورة الجبال التي تعضل المتسلّق، ولا يصل  قمّتها الا اولئك الذين اتقنوا فن التّسلق.

تلك الليلة؛ تغّير حال النجف الاشرف كثيراً، وباتت أصوات الناس لا تسمع كعادتها، وكأنّ هناك من حاول إسكاتها عنوة، بادرت العلوية آمنة لتراقب منخلف الباب، فوقعت عينها على حركة حشود بعثية مكثفة في الأزقة، ثم تيقنت بعدها أن الدّار قد طوّقت تماماً من قبل الأمن،باتت وهي مضطربة الأركان، تتنقل بين أرجاء الدار باستمرار، وحين قارب الوقت على صلاة الفجر، أحضرت من غرفتها وثائقاً ورسائل وصور،وبادرت لإحراقها بعد أن وضعتهافي صفيحة على سطح الدار،وحين سئلَت عن سبب فعلها هذا أجابت قائلة: سيعتقل السيّد في الصباح.

في تلكَ الليلة أحرقت حتى مذكراتها، تلك الأوراق التي كانت تحمل بين طيّاتها زخماً من المشاعر والحس المرهف.

وما أن بزغ فجر ذلك اليوم المشؤوم، حتى جاء مدير أمن النجف وسط أزقة خالية من المارة سوى البغاة الحاقدين من أعضاء الأمن، كان يسير نحو دار السيّد، لايسمع منه إلا غمغمةغامضة مع من رافقه لاتكاد تستبين.

وما أن دخل الدّار، حتى تلاطمت الهموم بصدر العلوية آمنة، وعصر الألم فؤادها، إذ راودتها ذكرى الإعتقالات المتكررة ولا شكّ أن هذه كمثيلاتها، بقت تختلف إلى غرفتها ثم تعود إلى باب غرفة أخيها الذي يجلس فيها مع مدير الأمن، ويطرق سمعها كلامهما، وفجأة غابت.

وما أن خرج أخوهامع مدير الأمن، حتى هرولت وهي تشتمل عبائتها وحجابها الكامل، واستبقت الجميع إلى باب السيّارة المعدّة لنقل أخيها، وبصوتٍ يملؤه الإستنهاضوقالت مستشرفة:

  • الله أكبر، الله أكبر.

واشارت إلى جلاوزة البعث، وكان جميعهم مدجّج بسلاح خفيف و ثقيل. ثم أكملت مُشَخّصَة :

  • انظروا إلى أخي، وحيداً بلا سلاحٍ، بلا مدافع، بلا رشاشات، أمّا أنتم فبالمئات مع كل هذا السّلاح.

هل سألتم  أنفسكم لم هذا العدد الكبير، ولم هذه الأسلحة؟

وسكتت، وكأنّها تنتظر منهم جواباً، إلا إنّ القوم آلوا إلى الجبن وكأنّ على رؤوسهم الطّير، فعادت إلى الكلام مرة أخرى فقالت:

  • أنا أجيب؛ والله لأنكم تخافون، ولأن الرعب يسيطر على قلوبكم.

وخطبت فيهم برباطة جأشٍ غير آبهة بالخطر، متيقنة بأن الله يدافع عن الذين آمنوا.

ثم اختتمت كلامها بالقول :

  • إنّا والله لانخاف  من سجونكم، و معتقلاتكم، ومرحباً بالموت  إذا كان في سبيل الله.

وما هي إلا كلمات، حتى تفرّق عددٌ بين الأزقة، ولاذ أخرون بجحورهم.

وحين رأت أن إعتقال السيّد واقع لامحالة، وكانوا قد أصعدوه بعنفٍ إلى سيارة الأمن، اتجهت نحوه لتشاطره الثبات قائلة:

  • إذهب يا أخي، فالله حافظك، وناصرك، فهذا طريق أجدادكَ الطاهرين.

نعم، كانت غرة ذلك الفجر خاليةً إلا من أصنامٍ بليدة جوفاء، وإمرأة  ذات صباحة وجه، و براعة  في المنطق وقوّة حجة، أنهكت خطّتهم، وفضحت بشاعة مايضمرون.

وما أن تحرّكت السيّارة، ونقلّ السيّد نحو المجهول، حتّى ولّت وجهها نحو قبر جدها ابي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام ، تخطو خطوات ثباتٍ لرؤية لا شبهة فيها ولاشكّ، وحين وصلت وجدت أنّ الحرم خالٍ الا من أفراد قلائل فعادت إلى الدار، وبعد ساعة كرّرت ذهابها  و استلمت باب الحرم، و اندفعت تصرخ بأعلى صوتها:

  • الظّليمة الظليمة، ياجداه يا أمير المؤمنين، لقد اعتقلوا ولدك. ياجداه، إني أشكو إلى الله واليك  مايجري علينا، من ظلم و اضطهاد.

ثم اتّجهت نحو الحاضرين، واستنهضت هممهم، واستصغرت شأن الطغاة، واستكبرت فعلهم المقيت، الممتلئ جرأة على الحقّ، وحين حاول أحد المتواطئين اسكاتها نهرته، وصرخت بوجهه، فولّى هارباً بعد أن احتوشه المؤمنون وانهالوا عليه ضربا، وما هي إلا سويعات، حتى استُعيد السيّد محمدباقر إلى الدار".

 

كان يقصّ ويقصّ ذكراها، وصوته يعلو حماساً كلّما اقترب من موقفٍ سامٍ لها، ومن شدّة حماسه كان متذكراً حتى لزفراتها، وأناتها، وأنفاسها المحترقة بنار العدوّ الظالم.

لكنّه صمت، واستعبر، وعلمتُ أنّ غِيرته لم تعد تحتمل هذه المواقف، وكأنّ تأريخه المثقل باللحظات المريعة وصل حدّ الإكتفاء، فها هي كربلاء مابرح صوتها يضجّ في روحه وأرواح الأحرار، وهذه زينب لما يخفت صوتها الذي أطلقته منذ ألف عامٍ ونيّف في أنحائه حتى سُمع مرة أخرى عن لسان آمنة، وهذا الحسين لم يزل دمه يروي ترابه حتى بدى كل شبر فيه حسينيّا".

 

لقد طوى حديثي مع وطني _العراق_ ساعات اللّيل حتى قارب على انفراج الفجر، و خلّف وراءه عالماً من الدّهشة في داخلي، وما أن لمُح قرب إنتهاء اللقاء، حتى راح يجمع أسراب أفكاره التي كان قد أطلقها عبر الزّمن المنصرم، ليودعني ذاهباً، لكن بدا أن لحكاية حلقتي المفقودة تتمّة، فاستدرك بحديثه مرة أخرى قائلاً:

 

  • " نعم، أرجعوه، لكنّهم بدأوا مع بيت السيد  بفصلٍ جديد، فصلٌ ملؤه اختناق، وأصبح الجميع تحت الإحتجاز، وأصبح الجوّ مشحوناً بالتخمين، فلم يعد يَعلم من في الدار عما في خارجه، كانوا يجهلون في أيامهم الأولى أخبار كل شيء.

كان المنفذ الوحيد لاستطلاع الأخبار صعود العلوية آمنة على سطح الدّار، متظاهرة بنشر الغسيل، وهناك كانت تلقي نظرة بخلسة وحذر، حتّى رسمت معالم أحداث الخارج جميعها لأخيها السيّد.

امّا الزقاق، فكانت أنباء ما فيه أيضا تجيئ من عندها ، لقد كانت حاوية النفايات ذريعة نافعة، تلتقط من خلال رميها صورة كاملة للخارج، ثم تعود.

وما أن كان يرنّ الهاتف، والذي لم يكن يهدأ إلا نادراً، إلا وتبادر إلى رفعه، لتدفع السوء بحنكتها وحكمتها، وكانت تعلم جيداً أنّ كل ما يدور عبر هذه السّماعة الصغيرة مسجّل في دائرة الأمن البعثية.

وطالت فترة الإحتجاز، والعلوية آمنة يستع أفقها في كل حين، فكّلما اشتدت المحنة، انطلقت هي نحو العمل أكثر، كانت تعي جيداً أنّ أيام المحنة تعني المِنحة، منحة السّعي لرفع الظُّلم، منحة العمل قبال الجائر، منحة العطاء والتفاني للدّين، ومنحة التكامل، حتى تمكّنت من كسر حاجزٍ على مدى شخصها، فأصبحت تخرج للحرم و تعود، تنقل ما يدور في الدّار لمن يهتم بالشأن، و تنقل الضروريات لتخبر بها السيّد، لقد كانت معرضة للقتل في كل لحظة، وعجيب قلبها أي يقين يمتلك؟ فلم يهتز ولم يرتعش، لقد كانت تعلم جيّدا ان الباطل غَرُورٌ خادع، وكانت سنة الله أنّه يضرب الحقّ والباطل، فأما الزَبَد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، و بالهدى يكثر الاستبصار.

وجاء يوم الخامس من نيسان، عام 1980م، مدّت يد الجور الخؤون مخالبها، حتى استلّت السيّد من بين عائلته، لتنقله إلى مصيرٍ كانت قد رُسمت معالمه للعلوية آمنة جيّداً، و ما أن تحركت سيارة الأمن، حتى تفرّق الجلاوزة، ولاذت هي بغرفتها، فتحت خزانتها و تأمّلت طويلاً، ثم سحبت قطعاً متعددة من الملابس، و  ارتدتها، و ربطت ثوبها على معصميها، ولاثت خمارها جيّدا،  لم تكن تشك  أنّ ملفّها مكتظ بمقارعة النظام، وأنّ دورها في الاعتقال آتٍ لامحالة.

لقد حاولت أن تستر نفسها تلافياً لبشاعة التعذيب المتوقّع ، و قساوة قلوب العدوّ الذي ما برح يُسمعهم من خلف الجدران مدّت الاحتجاز أنّه لن يتوانى عن هتكِ أعراضهم، والتفنن بأساليب الاعتداء"

 

وقاطعتُ حديثه هنا مستفهمة والخوف دكّ أضلعي :

  • هل كان من الممكن أن تعتقل هي أيضا؟ 

 

أجاب بصوتٍ متقطع:

  • إنّ الطغاة لا يفرقون بين رجلٍ وامرأة، هم ليسوا كالقران يقدّس ذاتها، ويُعلي شأنها، إنهم أوغاد عتاة، يعيثون في المجتمعات الفساد.

وجلاوزة الطاغية لم يمهلوا نفسهم حتى أربع وعشرين ساعة، فما أن طلع صباح يوم السّادس من نيسان، حتى طرقت باب بيت السيّد بخشونة، أدخلت  على ربّات الخدور الهلع، تعساً لهم، إنّهم لا يعيرون لأفئدة الصالحين مقاماً، ولا تستوقفهم أصوات نساءٍ ليس في دارهن حمى.

قد نزعت منهم الغيرة، ولا عجب، فإن الشيطان ليس بغيور، وهو منذ آلاف السنين يألّب بني الإنسان الغافلين اشر تأليب.

في ذلك اليوم، بعد أن خرجت العلوية آمنة واستعلمت قَدَرَها المحتّم، عادت إلى داخل الدّار، استعدت ثم خرجت ودلفت تمشي مشية الواثق الذي يهزم عدوّه في كل خطوة يخطوها نحو مصيره المنشود.

وفي قعر السّجون، كانت أصوات التعذيب لا تهدأ لها رنّة، حتى الضّوء كان يهرب من زنازين الظالمين، فلا يرى الواردُ عليها إلا الظّلامَ المخيف، ورائحة الدمّ الفاسد، تبعث في النفس الغثيان.

جاؤوا بالعلوية آمنة، مكبّلة، مدماة الجسد، فاقدة الوعي، وقد نالت السّياط من كلّ بدنها، وبدى لي أن  بعض عظامها قد هُشّمت، أحضروها  وهم يجرّونها جرّا، حتى وضعوها أمام الطّاغية، وكان السيد في نفس تلك الزنزانة المشؤومة.

ما أن رمق شقيقته، حتى احمرّ وجهه غضباً وارتعدت فرائصه غيرة،  وبدأ يكيل على الطاغية سيلاً من عباراتِ الأنبياء حين يقضّون بها مضاجع الطغاة، ولم تسعف الطاغية قوّة سطوته، فسابق اللحظات، مستخرجاً سِلاحه الذي لا يُحصي عدد قتلاه إلا الله، وأفرغه في رأس العلوية آمنة وأخيها السيّد محمد باقر، لتصطبغ الزنزانة بدماءٍ جرت سالف الأيام في أوردتٍ تزكّت بالعِلم والتقوى، و  ما برح يُسمع صداها نادبة الزمان ليُعرف  بها بغي الحاقدين"

فقلت صارخة:

  • " قتلهما؟"

أجابني وهو يسحب أنفاسه بصعوبة، وكنتُ أعيي جيداً أنّ الفاقد يعيش اللّوعة في كل حين، حتى وإن مر على الفقد دهورٌ وعَوالِم فكيف به وهو لم يفقدهم إلا منذ عقود قريبة؟:

  • "إنّ أولاد البغايا لا يحلو لهم أن يسمعوا أصوات الأنبياء و أبناء الأنبياء، فيلوذون بالدّمار، ويقرّبون الآجال ظلماً وعدوانا، وقد نسوا الجبّار، فقتلوا الأتقياء.

و هذه الأيام يداولها الله بين النّاس، ليعلم الذين آمنوا، وليتّخذ منهم شهداء، ومذ غربلت كربلاء نفوس الآلاف، احتاج الدين إلى قلوبٍ تصون أسراره، وتحسن عملاً فتعي الحقّ وتنشره.

فكان قلبُ آمنة خزانة من الخزائن الآتية من واقعة الطّف،  فُتحت تحت سطوة الجلاّد لينبعث منها لعنة على الظالمين، و نور ومعرفة للطالبين الهداية.

ومذ كان يوم العاشر من المحرم ، صدح لسان زينب مفصحاً بصوتها الهادر المبيّن ثورة الحسين،  أن الناس عبيد الدنيا، وأنّ تحفة السّماء لا ينالها الا  المجاهدون ذواتهم وطواغيت عصورهم، فكانت آمنة من تلك الثلة المنتقاة المصطفاة."

وهنا بانت تباريح الفجر،  وما رأيت وطني إلا قد  ارتسمت على ربوعه ابتسامة يشوبها الأسى من كدر الزمان، وهو ما يزال يحمل بين حناياه حكايات ينغّص أساها صفو المشارب،  و ما قصّ على مسامعي إلا أنه من أنّاته السّالفة، وقد أخبرني  أنّه ما برح  ينظر مرتقباً يوماً سينفض فيه عن كاهله غبار المِحن، طالباً فيه ثأر أبنائه المُرَوّعين، و مشارف ذلك اليوم قادمةٌ لا محال.

القصة الحائزة على المركز الثالث في مسابقة القصة القصيرة ضمن فعاليات مهرجان ربيع الشهادة العالمي الخامس عشر 

مريم الخفاجي