حالات تُجسد الواقع .. قد تكون بفعل الأشخاص أنفسهم وبشكل إرادي ، أو نتيجة قضايا أكبر من حجم دولة واصعب من قرار أفراد ، ولا ننسى خصوصية وربما قدسيته وتعاريج أجزاءه ؛ فحتى مدن البلد الواحد مختلفة كما الاسرة التي تنجب أفراد مختلفين في صفاتهم وطباعهم وحتى رغباتهم رغم توحد أمومتها ، فمن المدن ما يلبس ثياب الواقع الجديد وتتلهف لحاضر الموضة وتبرره باسم الحداثة والعصرية، ومنها ما يتنمط نمطاً محايداً بلون أبيض يختزل كل الألوان ، فلا شيء جديد يعكر صفو أصالتها وحتى ما يصعد الى سطحها من حمم لم ينبهها منه الا القليل ، وأخرى ترتدي هيبة السواد وتلحظ خطوط وجهها وقد اختزلت أزمنة المصائب، فتختبئ دوماً خلف لون الحداد الذي يرتديه نساؤها، فتراها متأهبة لكل العصور ؛ فلا حد للمصيبة ولا وقت للنسيان وفي عباب سماءها ثاراتٌ لا تُطفأ .

هكذا هي المدن .. وها هي كربلاء ؛ مدينة الطفوف التي تربعت على عرش القدسية لما ضمت تحت ترابها من سادة الجنة والارض، لذا لا يحتمل طقسها ما يطل من الحاضر ومعطياته محاولاً تجريدها من تلك الهالة التي لازمتها منذ طفها الأول ، وربما هناك ما هو أكبر من إرادة الأفراد أنفسهم في جرها لما لا تريد مما يجعلنا لا نلوم أحداً ، إنما هي لتسليط الضوء على الحالات الكثيرة تلك ، ومنها استخدام الدراجات النارية التي ملأت الشارع الكربلائي ، وداعي وجودها منذ البدء مرتهن بتخفيف الاختناقات المرورية وتسهيل تنقل الأشخاص في أيام الزيارات سيما عند الطوارئ، مقتصرة على الرجال فقط .. لكن ما استجد في الآونة الأخيرة هو ركوب النساء لهذه الدراجات خلف أزواجهن وهذه ظاهرة قد تكون غريبة بعض الشيء في مجتمعنا المحافظ مع لحاظ شيوعها في مدن اخرى، فكما أدرجنا مسبقاً أن لكل مدينة طابعها وهويتها، ومما لا يخفى على أحد أن هذه الظاهرة شاعت منذ احداث الطارئة في بعض مدن الشمال والتي أدت الى نزوح عوائلها قسراً من الشمال الى الجنوب حيث الملاذ في أرض الحسين عليه السلام .

وعند استقراء الآراء لدائرة ضوئنا هذه ، وجدنا أسباب أخرى بالإضافة الى كونها نمطاً اعتيادياً في مدنهم التي هجروها ، منها الحالة الاقتصادية التي فتكت بالعوائل النازحة فكان من الصعب التنقل مع عوائلهم بسيارات الأجرة التي تعتبر حملاً اقتصادياً لا تقوى أكتافهم المتعبة على تحمل أعباءه ، وأيضاً هناك من يربطها بأولى الأسباب التي وجدت لأجلها الدراجات النارية وهي سهولة التنقل خاصة مع الأوضاع الأمنية المتقلبة ، واذا ما تركنا أسباب هذه الظاهرة وأخذنا منحى آخر لها ومنه الخطورة التي قد تواجه تلك العائلة فالدراجة ليست وسيلة آمنة لنقل النساء والأطفال وكم من مرة شاهدنا رب أسرة وهو يحمل ابنه أمامه وزوجته الى الخلف وقد تعرضوا في إحدى المنعطفات لحادث سير قلب النزهة العائلية الى جراح ودماء ، إضافةً الى الإحراج الذي تتعرض له المرأة عند سقوطها من الدراجة والتفاف الناس عليها للمساعدة وهي ملقاة على الأرض ناهيك عن الأذى الجسدي وبيان بعض ما تحت حجابها .

نذكر ذلك رغم تقلص هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة سيما بعد ما أضفته تلك المدينة من آثار روحية حتى لمن يؤمها بالصدفة ويسكنها عنوة ، فأخذوا يتطبعون بها شيئاً فشيئاً ويتشكلون بأشكال قبابها ومآذنها ، فكربلاء بشكلها المحافظ المتزن تحفظ كرامة المرأة وتعمل دون المساس بكرامتها لتبقى مصانة من كل أذى .

نعتذر لكل من قد تجرحه ورود كلماتنا هذه .

نغم المسلماني