منذ مدة وأنا أشيح بوجهي عن الدنيا برمتها ؛ ولا أنفك أبكي وأندب حظي ، فلم أتوقع دخولي منعطفاً محيراً يدفعني خطوة الى الأمام ويرجعني بأخرى الى الخلف .

أيهما ستكون يا ترى ؟ خطوة تفتح مرآة المستقبل أم تلك التي تعود بي لصفحات مهترئة منه أضحت من الماضي ، منعطف مخيف ، وحد فاصل بين النجاح والفشل ، ومرحلة مصيرية تحدد هويتي ومكانتي الاجتماعية ، سيما وأني أكملت نصف الدرب واجتزتُ معظم الاختبارات بتفوق تخلله إخفاق باختبارين أحملهما ثقلاً على أكتافي للدور الثاني كضريبة لما قتلته من وقتي بالإهمال واستبدالي للواجب باللعب ، فلم أكن حازمة كما ينبغي ! وها أنا عالقة في منتصف الطريق أرقب من يحصد ساعات الإعياء بالفرح والفخر ، فتأزم حالي وتملكني الخذلان .. لذا لم أعدُ العدة للاختبارين القادمين .. فأقلامي لا زالت تأبى أن تخط حرفا ! فأي مستقبل مبهم ينتظرني مع هذا التهاون ؟ لما لا أتدارك الوقت الذي لم يبقى منه إلا عشرة أيام فقط ؟ ماذا أنتظر ؟ وإلى ماذا أنظر ؟

عند هذه الخصلة الزمنية ، تدخلت جدتي التي تعودتُ ان تلهمني دوماً بأفكارها ونصائحها ، فهي من يسعفني في اللحظات الأخيرة حين يتملكني اليأس ! أراها كما البوصلة أو صمام الأمان او أحياناً كملاكي الحارس ! فهي امتداد أمي ورائحتها التي حرمت منها ، لم يعجبها حالي .. لكن كعادتها لا تحمل النصيحة بأصوات الصراخ والتأنيب ، بل بقصة تحمل عبرة ، فضلا عن منحها لي قبلة وعناق يشحن قواي ويملأ قلبي ، وغالباً ما تسبق الأولى بالثانية فتضمني إليها وتقول :

ـــ   " يا فاطمة ... سأقص لكِ قصة قد تغير حالكِ " .

فأنصتّ لها وراحت خيالات تسرح بقصتها وأنا أختبئ في أحضانها !

ـــ   " منذ زمن بعيد .. كان هناك مزارع ، يملك حصاناً عجوزا ، وفي يوم ما ، وقع الحصان المسكين في بئر ، وكانت البئر جافة من المياه ، وراح يصهل لساعات طويلة ، في حين كان المزارع خلالها يفكر بطريقة ما لاستعادة حصانه ، لم يستغرقه التفكير وقتاً حتى أقنع نفسه بأن الحصان أصبح عجوزاً ، وأن تكلفة استخراجه تساوي تكلفة شراء حصان جديد ، فنادى المزارع جيرانه الفلاحين لمساعدته في ردم البئر .. ليضرب بذلك عصفورين بحجر واحد ، دفن الحصان وردم البئر مجاناً بمساعدة الجيران .

           بدأ الجميع باستخدام المجارف والمعاول لجمع التراب تمهيداً لإلقائه بالبئر .. فأدرك الحصان ما آل اليه الوضع ، وحين بدءوا بردم البئر ، سكت الحصان عن الصهيل ، عندها استغرب الجميع واقتربوا من حافة البئر لاستطلاع سبب سكوت الحصان ! " .

سكتت جدتي لوهلة ، وأدارت وجهها الي ، وهي تداعب جدائل شعري ...

ـــ   " أتعلمين ماذا وجدوا يا فاطمة ؟ " .

هززتُ رأسي مجيبة بالنفي ، فأردفت هي :

ـــ   " وجدوا أن الحصان يهز بظهره كل ما نزل عليه التراب ، ليسقطه عنه ثم يقف عليه ! وهكذا كلما رموا عليه التراب .. نفضه عن ظهره واعتلاه ، ومع الوقت استمر الناس بعملهم ، والحصان بالصعود ! وأخيراً قفز الحصان إلى خارج البئر ! كذلك هي الحياة يا صغيرتي تلقي بأثقالها وأوجاعها عليكِ .. لذا تعلمي كيف تواجهين مشاكلكِ وتتغلبي عليها وتستمري بذلك حتى تجدي  نفسك يوماً ما في القمة ، فلا تتوقفي ولا تستسلمي أبداً مها كانت الظروف قاسية والمشاكل كبيرة " .

ثم أبعدتني قليلاً ، وأمسكت بذراعيّ وهي تنظر أليّ بملء أحداقها وتقول :

ـــ   " صغيرتي ... الآن حملكِ خفيف ومشاكلكِ بسيطة ، لكن في المستقبل ستواجهين مشاكل حقيقية ، فكوني قوية لمواجهتها بعدي ، ولا تنسي هذه القصة أبداً " ، ثم ابتسمت وأكملت ... " والآن ... هل سيكون لكِ عزم أقل من عزم هذا الحصان الذي واجه الغدر والموت بشجاعة ؟! " .

نغم المسلماني