فتحت عينها على صوت آذان الصبح ...
" انه يوم الجمعة ، اخيرا ... يوم استراحة العمل ، والالتفات للبيت وتفاصيله " .
كل من يعمل خارج البيت ، يعرف قيمة يوم الاستراحة ، وكثيرا ما يعد له جدولا ، وجداول بديلة ، لإنجاز كل ما آُجل طيلة اسبوع ...
" دعيني ايتها الأفكار ، أُصلي ... "
ركعت وقامت مبتسمة ، لقد طردت الأفكار بالفعل ، وأكملت " سمع الله لمن حمده " ...
في السجود ، لذة اخرى ، هوت بكل كيانها ووجدانها وقلبها وعقلها ، وكأن نصفها خرج من عالم المادة ، وأطل على عالم المعنى ، وكل أمنه وأمانه.. . سبحان ربي الأعلى ... وأي أمر يليق ذكره هنا الا " هو " ؟
وأي شيء يليق ان يطلب الا " هو " ؟
وأي عظيم اكبر من ربي ؟
جلست مسّلمة وشاكرة ، ثم جالت بعينها لتبحث عن مصحف او مسبحة ، تُكمل به هذا النعيم ، فوقع نظرها على قميصه الأخضر ...
كانت قد نسيت إنها أخرجته ليلة أمس ، فعاودها شعور جارف بالحنين ، وانزلقت قطرات الدموع بلا بكاء ! لتتدحرج على مصلاها ... قاومت الرغبة في احتضانه لتحافظ على ما بقي فيها من عزم ، بل ... لقد قررت مرارا وتكرارا إنها ستخفي هذا القميص لكنها تفشل في كل مرة ... حيث يسود الليل وتحضر صور العزاء والفقد وتنهش في قلب موجوع ﻻ بد له من جرعة تصّبر ، حتى وان كان قميص شهيد ...
كانت تقول " ﻻ عجب أن يرد قميص يوسف البصر ليعقوب ... ﻻ عجب ولي قميص ترتد به لروحي أنفاسها " .
كإنها لم تقم من مصلاها ، بل استلقت عليه تناجي ربها قبل ان تشرق شمس الصباح بحقيقة ﻻ رجعة فيها .
" لقد استشهد " ...
ابتسمت وهي تتذكر صخبه وكلماته ، مهددا ومتوعدا ان عليها ان ﻻ تبكي لاستشهاده ، بل تفرح وتوزع الحلوى وتواصل حياتها شامخة الرأس!! !
ثم بكت لجهله وتجاهله ...
" كل تلك السنوات ولم يعرف كيف يكون قلب المرأة بعد الفراق ... كان يعيش المثال ، وأنا لست مثال ، لم أوزع حلوى ! ولم أتصبر عن البكاء ! ولم اشعر بعزة وشموخ ! لقد انهار ركني الوثيق " ...
دخلت أشعة الشمس ، متكسرة على نوافذ الغرفة الخالية حتى من الهمس ، المليئة بحديث النفس؛ لتبدد رائحة الحنين .. صوت اتصال بعيد، بحثت بين الفراش، تحت السرير، بين ملابس مبعثرة هنا وهناك ، حتى وجدته ...
ـــ ماذا حدث ؟!
ـــ انفجار كبير .
ـــ كلكم بخير؟
ـــ ﻻ ... نحتاج إسعافات طبية كثيرة ، اتصلي بمن تعرفين واحضري فورا .
هناك وهي تخيط الجروح بين ضجة المصاب والفاقد وصوت المنتسبين ، كانت هي الوحيدة التي ﻻ تتردد في إسعاف اي حالة وﻻ تهتز لأي منظر ، كل ما تفكر به ... كيف تنقذ روحا اخرى ليس من الموت بل من وجع الفقدان .
يوم الجمعة هذه المرة كان مباركا جدا ... ثمة أرواح كثيرة كانت ستموت لوﻻ استجابة الجميع ... لقد حل المساء وساد الهدوء شيئا فشيئا ، فيما استلقى ثلاث أطباء على كراسي الانتظار ، وغطوا في نوم عميق ... انشغل البقية بالحديث بهمس في حاجز الاستعلامات ...
" ﻻ بد ان نزيد عددنا فعشرة ﻻ يكفي والبعض كان مشغولا بالواجب " ... ثم التفتوا إليها بسؤال جاد .
ـ " أمنة ... هل انتهت عدة الوفاة لزوجك ؟ " .
هزت رأسها بالنفي ، فساد صمت للحظات قررت قطعه بشكرهم على الاستجابة السريعة لنجدة الضحايا ، وان الأمر الآن مسيطر عليه في المشفى ... الأفضل ان يرتاح الجميع.. . سمعت اسمه فالتفتت بعجل ودهشة لترى طبيب الردهة مقبلا عليهم قائلا :
ـ دكتور مهند شهيد الطبابة العسكرية كان هو منقذنا الأسرع ، ودكتورة آمنة زوجته نفس الهمة وكأنهما شخص واحد...
وسط عبارات الشكر والثناء والترحم ، اختارت ان تشق طريقها لباب المشفى وهي تردد ...
" ستحيا مع كل نفس أنقذتها يا مهند " .
لبنى مجيد حسين
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري