بيت صغير على أطراف قرية ، تدلت نباتاته المتسلقة الى الخارج لتجعل منه لوحة مؤطرة تبهج النفس ، وما ان يفتح الباب حتى تنعكس أشعة الشمس على ارضية من الرخام لتوحي بأنك تدخل مزارا ﻻحد الأضرحة ؛ سيما انك تجد نفسك في باحة كبيرة ، شبابيك واسعة، أبواب تحمل فوق رأسها شبابيك إضاءة ملونة، يا له من مشهد غير متوقع .
دعانا للدخول بكل حفاوة ، فلم استطع الا ان ابدي إعجابي بالبيت منذ أول وهلة ، لم يخطر في بالي ان أحظى بشيء جيد يتناسب مع إمكانيتنا المتواضعة .
وفي صالة الضيوف كانت تتوسط الجدار صورة كبيرة لطفل جميل على ألواح من السيراميك ، يخيل إليك بأنها تملئ الغرفة فلا تكاد تنتبه لشيء اخر، آه ... كم هو جميل ؟ ولكن للاسف لم أحظى بفرصة لتدليل أوﻻدي ووضع صورهم في إطار خشبي فضلا عن تعليقها في البيت .
دعانا الرجل لرؤية تفاصيل البيت ، ثم صعد وزوجي الى الغرفة في الطابق الثاني ، اما أنا فلم أجد رغبة بالتجوال أبدا ، لقد شعرت بالاستقرار ووجدت ضالتي وأيا كانت نواقص البيت ، وان لم أرها سأتحمل تكاليفها ﻻحقا .
وفي سؤال مباغت مني عن سبب البيع ، تبين انه يروم الانتقال الى مدينة اقرب لعمله وإلا لم يكن ليفكر ببيع البيت بعد عشرين سنة من الاستقرار والجار الطيب ، وحينما أراد زوجي مناقشة السعر تدخلت على عجل لأعلن سعادتي بشراء المنزل أيا كان ثمنه ! .
لكن ثمة سؤالا قفز الى لساني ففتح علي أبواب الحزن؛ حين سألته ، هل تفكرون بأخذ صورة ولدكم من الصالة ؟ فأطرق الرجلان بدقائق صمت وكأني قد تجاوزت أرضا محرمة ! فاستدركت بعد دقائق إنها لوحة جميلة يسعدنا ان تبقى ، فنحن نحب الأطفال ، ولعل الله يرزقنا أخا لبناتنا الصغيرات ، لم اشعر الا وكف زوجي تسحبني الى جانب مشيرا الي بالسكوت ، فيما اخبرنا الرجل بموافقته على البيع وانه يمكننا بدأ الإجراءات الأسبوع القادم بسبب انشغاله بمرض زوجته هذه الأيام ، فتمنينا لها السلامة وخرجنا مسرورين نحمد الله على ما رزقنا .
في طريق العودة ، كنت اسأل زوجي : هل زوجة أبو طاهر موظفة معكم أيضا ؟ وكم عمرها ؟ وأسره بصوت خافت " البيت تحفة بالنسبة لي!!! " ، ثم أكملت بالدعاء لهم بإن يجدوا افضل منه ، فأشار بالموافقة بدل كلمة آمين ، لكنه لامني بنبرة استياء حول سؤالي عن الصورة ، وتدخلي فيما ﻻ يعنيني .
ورغم استيائي من كلامه سألته هو ابنهم طاهر كم عمره الآن ، ﻻن الصورة ربما قديمة فهي لطفل بعمر خمس سنوات فاخبرني ما لم أصدقه ...
ـ ليس لديهم ولد! ...
ـ وطاهر ؟!
ـ إنها كنية ...
ـ والصورة ؟
ـ صورة طفل ، اشترياها ﻻ غير...
ـ وزوجته؟ أم انه غير متزوج أيضا ؟
ضحك زوجي وقال
ـ ﻻ ... متزوج واعرف زوجته معنا أيضا في العمل لكنهما لم يرزقا بطفل ، وهذه الصورة سببت مشاكل كثيرة ﻻن زوجته متعلقة بها وبكل تفاصيل حاجيات الأطفال ، وانه يخشى ان تعاني من حالة انفصام إن استمرت هكذا ، لذلك قرر بيع البيت وتغيير مكانه .
ـ وهل تقبل ترك المنزل ؟
ـ هذا الأمر يخصهما، الذي يهمنا ان المنزل بأسم الزوج ، وانه معروض للبيع ...
ليلة كاملة أتقلب في فراشي ـ اشعر ان تلك المرأة ستفقد ولدها بسببي ! وﻻ اعرف سبب تلك الهواجس ، لم انتظر حتى الصباح لكثرة انشغالي بالأمر، حتى خيل لي إنها تكلمني ، استعذت بالله ، قمت لتفقد أطفالي، ثم ما صبرت حتى أيقظت زوجي من نومه ﻻخبره ، " إني أريد رؤيتها " فلم يكترث لقولي وحاول سحبي للنوم وتأجيل كلامنا الى الغد ، فنام ولم انم ، مازلت أفكر ، هل يصل الأمر بالإنسان ان يحب صورة في جدار ؟! كان الأفضل ان يتبنون طفل ليرعى في كنفهم سعيدا !
في الصباح طمأنني زوجي حين قال " انت ﻻ تعرفيها ، هي إنسانة مثقفة مبدعة شخصية محببة للجميع ، وأنا اعتقد إنها ستكون مسرورة بالتعرف عليك في زيارة عائلية ﻻحقا ، فارتحت وانزاحت عن قلبي الهموم بحلو حديثه .
وفيما انشغلت بترتيب بعض الحاجيات لعدة ساعات ، عاد من العمل قبل ان يكتمل دوامه الرسمي ليخبرني بأنه لن يشتري هذا البيت .
ووسط صدمتي ، قص عليّ تفاصيل يومه بإيجاز حيث التقى بأم طاهر وزوجها ، وتبين له إنها ﻻ تعرف بموضوع البيع ، ليس هذا فقط بل مطمئنة لعدمه ، وقد دعتنا يوم الجمعة للغداء عندهم .
ولما استغربت موقفها ، اعترف زوجها بأنه وعدها ان ﻻ يفكر بالبيع مطلقا ، بعد ان كانت هذه الفكرة سبب مشكلتهما قبل سنوات ، فانزعجت جدا منه ، رغم انه حاول ان يشرح لي ان البيع في صالحها ولغرض التخفيف من حالتها ، لكني لم أحبذ فكرة الخذﻻن أبدا ، تيقنت حينها ان مشاعري بالأمس كانت صادقة ، واني كنت على وشك ان اخطف طفل امرأة مثلي ، فاستنكرت أنا أيضا ان يكون القرار بدون علمها ورضاها ، صمت زوجي قليلا ثم علق مرة اخرى " اذا كان الله عز وجل وهو المالك المتفضل وصاحب الحجة البالغة على الخلق يقول " أنا عند ظن عبدي ... " ، فكيف يخذلها بعد الوعد ؟!
صمتنا قليلا ... لقد خسرنا البيت إذن ، ولكننا لم نكسر قلب احد ، فباغتنا الصغار بضجتهم المعتادة عند العودة من المدرسة واستقبلناهم هذه المرة بشكر النعمة والأحضان الحارة وكلمات الترحاب والتدليل المبالغ ، وكأننا أدركنا قيمة ما نملك ، بل وقيمة بعضنا أكثر .
لبنى مجيد حسين
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري