انقضى الليل ولم تنقض طرقات حبات المطر الهادئة ؛ كوخزة ضمير انبعثت من عقلي الباطن لتقض مضجعي دون ذنب .
ها هو الصباح قد أشرق ، أزحت الستائر بحثا عن الدفء والنور ثم فتحت النافذة ، فأندفع تيار الهواء الرطب بكل قوة ليبعثر كل شيء إمامه ، حتى خصلات شعري المتسربة من شريطها ، لتدغدغ وجنتي وتضرب وجهي برفق ، ثم تربت على كتفي متملقة لي بفكاك أسرها من الشريط ، فما كدت ان افعل حتى انطلق هو الأخر من يدي ، دون ان اعرف الى أين .
أقبلت نحو النافذة في رغبة عارمة للتسامي وليس للموت واذا بحافتها الباردة تصقعني، فقد اختزنت هي الأخرى ما فاض من رطوبة ليلة كاملة من البرد وكأنها تحتمي من زمهريرها بهجيري .
أين ذهبت شمس أمس الحارة ؟
هل هناك من يعاقبني بصمت ؟
ولمَ يذكّرني هذا البرد ببرد وحدتي وقسوتها ؟
وهل من حق الرجل فعلا ان يترك زوجته ﻻأسابيع طوال دون اكتراث؟
وهل حقا كما تقول لي خلقت المرأة لتكون زوجة وخلق الرجل ليعمل ؟
وهل كل من يعمل ﻻ يتصل بهاتف وﻻ يجيب الا ما ندر؟
وهل ان توالي الأيام عليَ دون اتصالك يعُّد تصرفا طبيعيا ؟
وهل ترى ان علي ان استوعب جملتك المعترضة " ان ايام الفتوحات النبوية كان الرجل منهم يغيب ﻻشهر؟ ولم يكن في وقتها ما ويوصله بأهله من وسائل اتصال؟
طيب ... ولكن ألان يوجد وسائل اتصال تجعل العالم قرية صغيرة !!! فلماذا ﻻ نستعملها ؟
بحركة ﻻ إرادية ، أغلقت النافذة وكأني أغلق باب تفاصيل ﻻ أريد الاسترسال معها !!!
ثم اقتربت من زهرتي ﻻطمأن عليها ، فأخذتني رقتها وناعم مخملها ، تمنيت لو إنها تشهد بما تعرف !
همست لها : " اخبريهم يا رفيقتي وحدتي وشاهدي الوحيد ، اخبريهم " إني صبرت " و " إني تعبت " و " إني مرضت " ...
كم تمنيت لو ان لها كتفا اسند اليه رأسي !!! ولسانا تروي ما شهدته من أمري ذات ليلة او ذات صباح او ذات نوبة بكاء مني وهاجس حيرة على محيا وجهي .
وبينما استغرق في همس مناجاتي لها ، وإذا بصوت ارتطام أبواب النافذة بقوة يفزعنا معنا !
ها قد فتح ذراعيه مرة اخرى نحوي ، شعرت هذه المرة بأرواح تعانقني ...
هل انت ابي؟
وهل انت أمي؟
وهل تذكرتماني اخيرا ؟
نعم ... إنا طفلتكما التي علقت في هذا العالم مع زوج ﻻ يكترث لها ، ولا يعنيه منها وثاق ! ويقضي اغلب الأيام مسافرا هنا وهناك .
اعلم لو كنتما حيين لما فهمتماني ... ولكني أتأمل ان لكما بعد الموت عينا بصيرة تعرف خلجات النفوس .
لقد سامحت حتى كرهت نفسي وكرهني من حولي .
لقد كنتما أهم شيء في حياة بعضكما ، ولم تضطرا للاشتياق الطويل .
وأنت يا أماه ... لم تنامي على جمرات الشوق لرؤيا تحضر لك والدي !
وأنت يا ابي ... لم تحتج لكلمات او تلميحات لتفهم واجبك ! لأنك كنت تضع الأمور في موازينها وتسبق العتبى بالبيان والدمعة بالحنان .
اسألي زوجي يا أماه ، عن لون منضدة في مطارٍ تركيٍ ، سيعرف .. نعم ... سيعرف ذلك !!!
ثم اسأليه عن لون ستائر غرفتي ! عن شكل مقبض بابها ! عن اثر جرح في يدي او وجهي !!!
ثقي ... لن يتذكر ...
نعم ... اعرف إننا منسجمين متحابين ، ولكنه ﻻ يهتم ولا يبالي !!! فقد اعتاد غضبي وعتبي ، ثم رضاي وصمتي وصبري ، اعتاد أكثر مما ينبغي ، لدرجة انه يتركني إواسي نفسي بنفسي فانا " العاقلة المحبة المطيعة " !!! وهو " السيد المهم " الذي يأتي على عجل ويرحل على عجل بعد ان يتناول ايام انتظاره كوجبة شهية دافئة استحقاقا من دون ثمن .
خصﻻت شعري تثور مرة اخرى تضرب على فمي !!! تحاول ان تمنعني البوح !!!
إليك عني ايتها الجدائل المتمردة !!!
أليك عني ... أفلا يحق لمظلوم ان يتنفس ؟! وللمكروب أن يدمع ؟! .
أغلقت النوافذ بإحكام ثم جمعت خصلات شعري وكأني إُخرس كل حركة حولي ، ثم التفتُ الى زهرتي أنهي معها حديثي ...
" أ لست أرعاك كل صباح ؟ " .
" أ لست أسقيك وأعرضك للشمس وأجدد تربتك وابعد عنك ما يضايق وجودك ؟ " .
أذن ... أشهدي لي بأنه " ﻻ يهتم بي " .
اشهدي لي بأنه " يأخذ ولا يمنح " .
أشهدي لي بأن " روحي قد هرمت " و " قلبي قد تقيح وجعا " .
نعم ... أتذكر قول رسول الله " خيركم خيركم ﻻهله ، وأنا خيركم ﻻهلي" ...
أتذكر وصيته صلى الله عليه وآله " إوصيكم بالضعيفين .. " ...
أتذكر وصفه للنساء بالقوارير مرة وبالريحانة أخرى ، وكل ما يوحي باللطف ويستدر العناية ...
أتذكر من قال " عليك ان تقرري ما تريدين !
وماذا أريد أكثر من انسانيتي ؟
من رجل يقدر ان هناك من يهتم لتفاصيله ؟
وان جزاء الاحسان بالاحسان ...
وان الكلمة الطيبة صدقة ...
وإننا نجامل الناس كل الناس الا اقربهم منا !!!
لن اقرر ولن افكر ...
سوف اترك له وخز الضمير القادم ليقرر ما يشاء ...
لبنى مجيد حسين
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري