سنوات العمل في المشفى جعلت قلبي ﻻ يرق بسهولة ، فقد رأيت ما رأيت ، وسمعت ما سمعت !!! ثم سرقتني الدنيا من نفسي ، وحشرتني مع اللاهثين خلف الالقاب والمناصب ، حتى لم اترك لروحي متنفسا للحياة الحقة
حتى التقيت ذلك الرجل السبعيني الصابر ، بوجهه البش الذي يخيل اليك بأنه ﻻ يشكو من شيء ، ثم تكتشف من خلال المعاينة ان ﻻ علاج ينفعه .
وما ان اعبس ، لعجزي عن الحل ، يبادرني قائلا : " ابتسامة ودعوة وربك كريم " ، فاتركه متذمرا ، ولساني يردد " فاقد الشيء ﻻ يعطيه " ، فانا محمل بما يكفي وﻻ طاقة لي للتفكير بأحد فضلا عن الدعاء ، حتى حل ذلك اليوم ، حيث موعد الزيارة للمرضى الراقدين من قبل ذويهم ومتعلقيهم .
انا عن نفسي .. اكره الزحمة والضوضاء والجلبة التي تحدث اثناء ذلك ، لكنني هذه المرة مضطر للبقاء في الردهة بسبب حالته الحرجة ، إذ يبدو انه يقضي ايامه الاخيرة .
في ظهيرة ذلك اليوم رأيت امرأة كأنها مدرسة او شيء من هذا القبيل ، وجمعا من الصبيات ذوات الثمان والتسع سنوات يتحلقن حول سريره ، وقد ارُسلت دموعهن على وجوه بريئة صافية .
كنت ارقب هذا المنظر باستغراب ، ثم قررت التدخل لأخرج الضيوف حرصا على وضعه الصحي ، فوجدته مبتسما رغم الالم ، سمعته يوصيهن ويخفف عنهن ، فأحسست بأني مجبرا على الانصات .
" اسمعن ايتها الصغيرات... نعم شيخي ... نعم سيدي ... نعم ابي ... "
هكذا توالت ردودهن المتكسرة بغصة الحزن ، فلما انتهين قال أكثرهن عبرة : " هل تؤمنين بيوم القيامة ؟ " ، قالت : " نعم سيدي ... ولكننا ايتام لماذا تتركنا كما فعل والدينا بالأمس ، انت بالكاد علمتنا جزءا من القرآن ، فمن يعلمنا الباقي " !!!
واجهشت بالبكاء ... فأبتسم حتى ارتدت انفاسها ، وقال : " أي فاطمة يا عزيزتي ، اذا جاء يوم القيامة ورزقني الله الجنة سأطلب منه ان اراكن ، وان نلتقي ونتحدث كثيرا ، لعلي اعلمكن الاجزاء الاخرى من القرآن الكريم " ، قالت : " وكيف نلتقي والخلق كثير؟ " ، قال : " كما التقينا في الحياة والخلق كثير ، وهذا وعد مني " ، ثم جال بصره في وجوههن وقال : " اذا رحلت لربي ارجو ان تحافظن على الحجاب ، وعلى القرآن ، وانا بدوري سأزور ابائكم الشهداء ، واقول لهم انكن كسالى في الحفظ " !!!
فضحكن الصبيات ، وصرن يقتربن منه فرأيته يخرج مسبحته قائلا : " هذه المسبحة رافقتني طيلة عمري وحجي وزيارتي وسهري وبري وفي كل حبة منها بعض مني " ، ثم طلب مني قص خيطها ففعلت مستغربا ، فما لبثت ان تساقطت الحبات ارضا ، وانشغلت الصبيات بجمع تلك الخرز !!! حتى دخلن تحت السرير وحوله .
بصرت به يتحامل على نفسه ، وهو يدعو لهن بالستر والكفاية ، فأدركت انه اشفق عليهن معاينته ، ثم فاضت روحه الى بارئها !!!
كان موقفا رهيبا هزني بعمق هذا العطاء والرحمة التي يبذلها حتى اخر لحظة من عمره ، وهو ما اخجلني من نفسي ، من كلمتي ، وانا اتنصل عن الدعاء ، فضلا عن الابتسامة ، وخيل لي اني في محضر ولي من اولياء الله ، عندها ... كم تمنيت انه وعدني حينها بلقاء كما وعدهن .
لبنى مجيد حسين
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري