زيارة الأربعين ، تجربة شخصية ، أثرت بي كثيرا .. حتى أنني لم أستطع التأقلم لما عدت إلى أرض الوطن ، فلطالما احترق الفؤاد شوقا ، وأحرقت الدموع المآقي ، ولطالما رفرفت الروح وسافرت وحطت هناك في كربلاء ، عند العباس مرة وعند الحسين مرات ، وإلى النجف الأشرف حيث يفتح أمير النحل ذراعيه لكل مؤمن موال وصادق ، ثم تنتقل إلى الأطهار من الكاظمية إلى سامراء ، تجدد العهد هنا وتبسط يد البيعة هناك ، وتذرف الدمعة بالولاء هنا وهناك ، ولكن كل هذا لم يتعدى كونه عناق في الخيال .

حتى جاء هذا اليوم الذي استجاب الله فيه الدعاء وقبل الأطهار توسلي وبكائي وسمحوا لي بالتشرف بتقبيل العتبات ، استميحكم المعذرة في سرديتي هذه ، فلذة رحلتي هذه تحتك علي متابعة دقائقها وجزئياتها دون ان اغادر منها صغيرة عدا ان الحديث في حضرتهم يحلو و يطول .

ابتدأت الرحلة من علين العالمين نفس الرسول وزوج قرة عينه البتول الإمام علي بن أبي طالب وما يحمله هذا الاسم من معاني الوقار والهيبة ، وحسب رأيي المتواضع ... لا يدخل حرم الإمام علي عليه السلام مذنب !!!  

لم أستطع الدخول برغم لهفة الشوق ، وقفت على الباب ، استأذنت وطلبت السماح واستغفرت من كل ذنب أذنبته ، نسيته أم تذكرته ، فهذا علي وما أدراك ما علي ، ولم يطل الانتظار فالكرم من شيم الكبار وإمامي عظيم عظم الحق والتضحية والعدل وكل المعاني النبيلة ، فهو من أعطى للفضائل معنى .

دخلنا ، ومددنا اليد لتجديد البيعة ، ذرفنا الدمع لتقديم فروض الطاعة والولاء ، فعند أهل بيت النبوة تسبق الدمع الكلمة ولا تقدر حتى على الدعاء ,  دخلت فرأيت عليا إمامي وسيدي ومولاي خضيب الرأس مبتسما قويا متسامحا عطوفا كريما حاملا راية اللواء .

لوهلة ... تمنيت لو أن هذا اللقاء يطول وللحديث في حضرة الإمام شجون ، ولكن الوجوه المشتاقة والعيون الباكية حولي جعلتني أبتعد وأفسح لغيري المجال ، وفي القلب كلام للأمير لعل في أحد الزوايا أو حتى في طريق المشاية له سيقال .

وبما أننا أتينا على ذكر المشاية فلا أستطيع المرور عليها مرور الكرام ، فتلك التجربة التي كانت أجمل وأقوى تجارب العمر ، تجربة مفعمة بالدروس والمعاني والعبر ، فأن تسير لأكثر من (100) كم ، رقما قد لا يعني شيئا عند الموالين الصادقين الذين أتوا للحسين زحفا من إيران ، من البصرة ، من بغداد ... ومن كل المناطق والبلدان ، ولكنها طبعا وبلا ريب لا تعني شيئا في مسيرة السيدة زينب سليلة الطهر وجبل الصبر عقيلة بني هاشم .

نعم ، لا تعني شيئا أمام تضحياتها وقدرة تحملها برغم الألم و الوجع - هنا لا أتحدث عن الألم و الوجع الجسدي الذي أحسست به طبعا وللحقيقة كان وجعا جميلا حلوا ، و يا ليت كل أيامي وجعا على شاكلة هذا الوجع - الألم الذي تحملته السيدة زينب كان ألما روحيا يكسر الظهر ، فكم قاست وعانت هذه السيدة العظيمة والسياط وقيود الأسر تثقل كاهلها ، ومع ذلك قامت بمهمتها على أكمل وجه وأوصلت الرسالة وتحدت الطغاة وما ضعفت ولا استكانت وكانت قوية رسالية على خطى أمها الزهراء عليهما السلام .

عندها ... كم تمنيت أن أواسي هذه السيدة العظيمة ببضع خطوات ، وكلي رجاء في قبولها مني كمؤاساة لها وأن تقبل بي خادمة في مدرسة الزينبيات.

صور تترى في مخيلتي الصغيرة ، ودموعي تبلل مني خد ، وأنا اتذكر وصول العقيلة سلام الله عليها إلى أم البنين لتعزيها في العباس ، ووصلت أنا إلى العباس لأعزيه في الحسين سبط الرسول ونجل المرتضى والبتول ، والشوق مني اليه في ان أتعلم معنى الإيثار والتضحية والإباء ، وقفت أمام ذلك الصرح الذي لا يمكن للعقل إدراك كنهه ، وقفت كي أستمد منه بعض مما تلقاه في مدرسة علي ، فعزيت أم البنين وهنأتها على ما أنجبت وما ربت ، فوجهتني بدمعة منها إلى سيد الشهداء الحسين الشهيد المظلوم الغريب ، وقفت ... ترنحت ... تثاقلت خطواتي التي كانت تطوي الأرض طيا لملاقاة الحبيب ، كان عندي إصرارا على أن أصل إليه يوم الأربعين وما ان دخلت مقام الطهر ذاك وأنا اتأمل تلك الوجوه الباكية المشتاقة التائقة لشم عبير روح الشهيد ، وقفت على بعد أمتار اتأمله لأسلم عليه ولكن لم أرى إلا رأسا مخضبا بالدماء وجسدا بلا رأس ورضيعا يتوسد ذراعه محزوز الوريد بسهم حقود.

رأسا مبتسما مرحبا بمن أحبه وقصده وأمن برسالته وبمظلمته وجسدا فاتحا ذراعيه ليحتوي الجميع بكل حب وحنان وتسامح وكرم ، فانثالت من الحروف حديثا ، نعم ... حدثته في ثوان عما سكن القلب لسنين ، جددت العهد والولاء وصرخت صرخة مكتومة بداخلي " لبيك يا حسين " بما تحمله هذه الكلمة من معنى ، وما تحمله من أهداف ، عاهدته على البقاء على العهد ما دام بي نفس ونبض ولن تغيرني لا الضغوطات ولا التهديدات ولا حتى الموت الذي هو أقصى ما يمكن أن يكون ... أخبرته بأن الحياة مع الظالمين من بعده برما وأن النفس تتوق لذلك العالم الذي يحتضنهم في العلياء .

بعد اللقاء القصير في مدته و الطويل في بعده ، خرجت لأتعرف على كربلاء ... الشوارع والأزقة والناس ، وجدت من كل امصار الله واقطاره ممن أمن بالحسين ، وجدتهم قد جاؤوا الحسين وقصدوه حبا و ولاء ، التقيت بأصدقاء تعرفت عليهم من خلال صفحات التواصل الاجتماعي لسنين طويلة ولم ألتقي بهم إلا عبر أحرف بسيطة على صفحاتنا ، أحرف جعلت لقاؤنا الأول عند الحسين ، لقاء المحبة في الله ، محبة صادقة طاهرة نقية ، جمعنا الحسين جميعا تحت ذراعيه و كان لنا وطنا...

ووجدت أهل كربلاء أهلا لأن يكون الحسين الشهيد بينهم ، بل وجدت كل المؤمنين في بلد الائمة أهل كرم وجود وحسن ضيافة ، وجدت ما لم أراه في حياتي ، مما صير الكلمات خجلى متلعثة على لساني ، ولسان حالي يقول : " التحية بحقهم اقل القليل ولكن أعظم الأجر أن يكون أجرهم على الحسين عليه السلام ".  

وحانت ساعة الوداع - التي تمنيت ألا تأتي و لكنها أتت - ولم أتوقع أبدا أن الفراق سيكون سريعا وموجعا هكذا ، وقفت أمام بابه ... أنظر إليه من بعيد ، أناجيه ، أحاكيه ، أواسيه ، أشكره ، هذه هي مشاعري ، مشاعر متداخلة لمحبة تطرق باب اولياء الله واطهار بيه نبيه أول مرة .

دمع الفراق كان دمعا مرا وقاسيا ، والموقف كان أصعب موقف مررت به ، تذكرت ـ عند وقوفي على بابه لأودعه ـ  السيدة زينب وهي تودعه عند استشهاده وعند السبي وعند العودة لدفنه وحينها كان الفراق الأخير ، تذكرتها وأحسست بها ،  فساعد الله قلبك سيدتي ومولاتي زينب ... كيف استطعت فراق الحسين .

كان الوداع حزينا ولكنني عدت وأنا أحمل بداخلي أثار تجربة غيرت بي كثيرا ، فهمت من خلالها الكثير من المعاني والكلمات والمواقف ، وحظيت من خلالها بشرف التعرف على اخوتي في العراق ، وأدركت عظمة هذا البلد وحضارته وتاريخه ، وتمنيت له النصر والتوفيق على اعدائه و أعداء الأمة واتمنى على المسؤولين فيه النظر إلى هذا الشعب المضحي بنظرة تقدير واحترام لجهوده والسهر على أمنهم والرقي بالعراق أكثر أو كما يستحق العراق و شعبه .

ختام ، هذه كلماتي ، وكلي امنيات ودعوات في ان يوفق كل مؤمن صادق بالعمل جاهدا في تحصيل شرف زيارة الأئمة الأطهار والإمام الحسين الشهيد منهم على وجه التحديد واثناء زيارة الأربعين كي تنعم روحه بعروجها الملائكي ويسمو قلبه بطوافه بين القباب الذهبيات .

زينب الحمروني