تخرجتُ وبدأت معاناتي ومخاوفي تضّيع علي فرحة التخرج ، حتى اسلبتني نعمة الشكر ، بل ونعمة الحياة .

فجاءة وجدتني اشعر بعدم القيمة ، وإسوداد العالم حولي بضياع كل جهدي ودرسي ، فما قيمة شهادة ورقية سأضعها على رف غرفة في منزل عائلة كبيرة ﻻ يهتمون لشهادتي .

حاولت ان اتقدم لأكثر من وظيفة ، ولكن دون أمل ، حتى التقيتها في احدى مقابلات التقديم .

انا بعمر العشرين وهي بعمر الاربعين ، لكنها كانت تبدو اكثر نظارة مني ، لذلك شعرت بالخيبة مرة اخرى ، يبدو ان هذه السيدة لديها من يوصي بشأنها ، فقد كانت تتحدث بكل ثقة ولباقة ، ﻻ ادري هل كانت تستعرض خبرتها العملية ام شهاداتها الجامعية ام لتوحي لنا بالخروج من انتظار مقابلة التعيين ، بل خيل لي لوهلة انها ربما احدى شخصيات لجنة المقابلة .

حين سألتني مباشرة لماذا تطلبين الوظيفة ؟ اجبتها والمفاجئة تسيطر علي : أنا اريد العمل أحقق ذاتي واستفيد من شهادتي الجامعية و ......... واحصل على استقلالي المالي ، وقد اساعد عائلتي ايضا ، أنهم تعبوا من اجلي .

ابتسمت في وجهي قائلة متسائلة :

ـ هل لديك من يصرف عليك ؟ وكيف هي حالتكم المادية ؟

ـ جيدة .

ـ أتعلمين ان الوظيفة هذه تحتاج التزامك من الساعة الثامنة الى الرابعة ؟

ـ نعم  .

ـ أ تعلمين ان الاجازات المسموحة ثلاث ايام في الشهر فقط ؟

ـ نعم .

ـ هل تعرفين ان خط السيارة المخصص لنقلكم ينتظرك الساعة السادسة والنصف ليصل للعمل في وقته المحدد؟

ـ نعم

ـ هل تعلمين ان المرتب في بداية العمل يسمح لك بشراء طقمين من الملابس ﻻ غير؟

ـ نعم .

ـ اي انك لن توفري شيئا ولن تساعدي بشيء ؟

ـ لم اجب

استدركت بالقول :

ـ هل تعلمين ان ذاتك لن تحققها الوظيفة بل ستدورين في رحى طاحونتها حتى يشاء الله؟

ـ لم اجب لكني شعرت بالغضب .

ـ فبادرت بالقول انا يا صغيرتي اعمل في الوظيفة منذ عشرين عام ، تقدمت الان للعمل كمتطوعة لتدريب الموظفين الجدد كواردات لعمل انساني اخر ، اردت ان احقق ذاتي في شيء ، لأني لم احققها في الوظيفة ، لقد قضيت على زهرة شبابي هناك دون ان اصل لما اريد ، رغم ان والدي لم يكن مقصرا معي وﻻ حتى زوجي فيما بعد ، ولكني بقيت ارفع سقف احتياجاتي حتى ابرر حاجتي للعمل .

اتألم الان عندما اشعر ان اخرين سيدفعون نفس الثمن !!!

رفعت راسي وقلت لها على ماذا ندمتِ؟ قالت ندمت على جهلي حين حاولت ان احقق ذاتي بدخول ميادين العمل الوظيفي الطويل ظنا مني ان مزاولة عمل الرجال يرفع شأني .

ندمت أني لم اتعلم علما يكمّل ذاتي ، لم اطور مهاراتي ، لم اوسع مداركي ، لم اوفق لعمل يجعلني اكثر سماحة وفصاحة وقبوﻻ عند ربي ، ندمت أني لم اشارك بأعمال ونشاطات انسانية ، لم اهتم بمحتاج ، او يتيم او جار ، او قريب !!!

وقتي كان ﻻ يسمح ، ندمت لأني حين اجلس على مكتبي احلم اني اطعم طفلي وامسح اللبن حين يسقط على صدره ونحن نضحك لبعضنا ، او اني اودعه وهو يصعد سيارة الروضة او المدرسة ، بعد ان يقبلني واقبل كفيه الناعمتين ، ندمت ﻻن يوم العطلة اقضيه بالطبخ الاسبوعي والتنظيف الاسبوعي فلا وقت حتى في يوم العطلة للجلوس مع زوجي في حديث يؤنسه ، ندمت لأني لم اشبع من مداراة امي الكبيرة في السن ، ولم احسن خدمتها ، ندمت لأني حين ازور صديقتي تعرض علي ملابس خاطتها او ملابس طفل طرزتها ثم كان جزاءها قبلة جبين من زوج يقدر جمال ما تعمل .

اين كنت ؟ ﻻ اعرف تلك الايام تمضي سريعا ...

ليتني عملت عملا يناسب انوثتي ، ليتني عملت في مكتبة او زاولت مهنة التدريس او ربما شاركت بمشروع انساني او حتى عملا يتناسب مع حياتي الاسرية .

كان لدي ومازال الكثير من الحب للناس ، لكني لم استخدمه في مهنتي التي تستدعي الحزم والانضباط من السادسة والنصف حتى الرابعة عصرا .

جئت هنا متطوعة في محاولة مني بإسعاد غيري !!!

اسمعيها يا اخيتي ...

اتمنى ان تعيشي حياتك بهناء وسرور ، تعيشي الاسرة والطفولة كإمراءة ، حتى حين تعمل ، يكون عملها مناسبا لكينونتها او امومتها ، تعيشيها حقيقة ، فالحياة تمضي وﻻ تنتظر احد ، حتى يستفيق ...

وما هذا السعي نحو الوظيفة الا رغبة عمياء غير مبصرة غالبا اسبابها مسايرة المجتمع في قشور بعيدة عن اصل تحقيق الذات ، ولكني اسألك هل اختصاصك أنساني يمكن ان تهتمي من خلاله بمشروع لذوي الاحتياجات الخاصة ؟ هل بإمكانك تطوير نفسك في هذا التخصص ؟ وليس العمل بوظيفه ادارية عامة ؟ هل لك القدرة على مشاركتهم في مشروع يهتم بهم مستقبلا ؟

فعلا ... انا احب هذا الاختصاص واستطيع ان اتخصص في مجال منه ، سرحت في تخصصي فلم احظى بفرصة لشكرها الا ان اكتب ما كتبت لعلها تعرف اني لم انس نصيحتها ابدا .

 لبنى مجيد حسين