اقترب موسم الحزن ؛ وهي تنظر الى خطوات صغيرها بلهفة وحذر ؛ تحثه فيها على المضي قدما في محاوﻻته للمشي بلا مساعدة ...
اما هو ... فراح يحاول ذلك بهّمة صلبة ومثابرة عتيدة سيما ، وانها تشجعه بنغمات وكلمات لا يفهمها غيره وغيرها ، وتدعوه من خلالها الى اللحاق بركب الرجال سريعا .
هكذا انسجما معا في الحضور في مواكب العزاء الحسيني داخل منطقة سكناهم حتى اقتربت ايام اربعينية الحسين عليه السلام ، وتذكرت ايام خدمتها في موكب اهلها .
كانت ترقب بحزن ؛ التحاق المواكب الواحد تلو الاخر ، وتشنف سمعها بأهازيج الشباب وهم يعلون سيارات الموكب ، وتكحل رؤياها بانشغالات النسوة وهن يجمعن حاجياتهم استعدادا للرحيل .
كل شيء كان يتجه الى كربلاء ؛ تاركا خلفة وحشة المكان والزمان ، فلا موكب وﻻ مجلس وﻻ تجمهر للشباب ، وﻻ حركة للنسوة ، وﻻ انيس ، الا رايات ترفرف وكأنها تحث من بقي على الاسراع .
عند هذه الخصلة الزمنية من الصمت المغلف بحزن عميق ؛ خال لها بان زواجها كان خطأ ارتكبته بغفلة عن دينها ، او لعله طفلها الذي حملت به سريعا كان سبب عدم تحصيلها لشرف الخدمة هذه .
حتى اهلها شغلوا عنها وعن رد الاتصال !!! فكل الناس حولها بين زائر وخادم للزائرين او متطوع للدفاع عنهم ، في حين أنها ما زالت تترنح تحت وطأة هواجسها الحزينة ، خصوصا وأن كل ما يربطها بالحسين عليه السلام شاشة لقناة فضائية تنقل المسيرة اليومية للزائرين من مختلف ارجاء العالم ... الا هي .
فكرت ان تطلب من زوجها الذهاب ؛ ولكن انى لها ذلك ، وما زال وليدها في سنته الاولى .
حتى قفزت من عينها دمعة على حين غرة ، على مسمع من صوت شريكها : "يكاد الوقت ينفذ ، حيث بقيت ثلاثة ايام ليس الا ، لننطلق صوب جنة الحسين ، عليك ان تحزمي امتعتك لهذه الرحلة الملكوتية " .
في تلك اللحظة لم تستطع ان تتدرج في انفعالها ؛ او حتى ان تحدثه ، او تلومه او تطلب منه , لقد صعدت روحها الى بارئها تشكو حسرة الحرمان ، اما هو فقد حاول ان يتكلم ، ان يرفع راسها ، ان يمسح دموعها ، مستغربا من بكاءها المرير وصبرها كل تلك الايام على هذا الشوق دون ان تشعره بذلك ، فهمس في اذنها " ان كنت ﻻ تستطيعين المشي ... ﻻ اجبرك ، ولكن كيف لي ان اداري طفلا صغيرا لوحدي كل تلك المسافة ؟ " .
رفعت رأسها لتسمع البشرى مرة اخرى ، خشية ان تكون قد توهمت ، ليعيد عليها كلامه بهدوء اكثر هذه المرة : " لقد رزقنا الله طفلا بعد طول انتظار ، لذا اريد ان ازرع هذه البذرة على طريق الحسين عليه السلام وردا وريحانا ، فأنه موسم البذار ، فكم حلمت ان اختار له موضعا يضع فيه موكبه حين يكبر ، لذا يا زوجتي الحبيبة ؛ اريدك ان تعلميه مخالطة هؤلاء المحبين للحسين ومشاركتهم الخدمة ، وان ﻻ يستغرب رؤية للملايين منهم ، بل أن يستقبلهم بصوته الهادر "هلا بزوار ابو علي ، هلة بيهم هلة بيهم" .
عند هذا ، انزلقت على خدها دمعة حرى ، وتذكرت حينها ؛ حنة زوجة عمران ، وكيف ان الله عز وجل تقبل طفلتها بقبول حسن ؛ وانبتها نباتا حسنا ، ادركت ـ عندئذ ـ نعمة الله عليها في هذا الطفل .
قررت ان تذهب للحسين هذه المرة ، لتضع في خدمته فلذة كبدها ، خادما صغيرا وقربانا اثيرا ، ابتسمت في نفسها حين تخيلت انها ستقدم للحسين هذه المرة هدية مميزة عن اعوامها السابقة ، بل انها ستنجب اخر واخر وأخر ، ليكونوا في خدمته .
لبنى مجيد حسين
واحة المرأة
يعنى بثقافة وإعلام المرأة والطفل وفق طرح عصري