لن تمحو ذكرنا ... بهذه الكلمات الثلاث استهلت أعظم امرأة في تاريخ الحرب والقيام ثورتها الموسومة بمظلومية الإمام الحسين عليه السلام .

هذه الثورة الإعلامية المبدئية بامتياز ، كانت وليدة احد ابرز الثورات التي قادها الأحرار حول التاريخ ، الا وهي الثورة الحسينية الخالدة ، إذ من خلالها استطاعت ان تدق جرس الإنذار أمام الزيف الأموي من خلال فضحها جملة الجرائم والممارسات التي اضطلعت بها السلطة الحاكمة وقتها .

ولعل ابرز هذه الممارسات ، تلك القسوة التي أبداها جنود الخلافة المزعومة آنذاك في التعامل مع الناجيين من معركة الطف ، سيما النسوة والأطفال وهو ما يدعونا الى قراءة بعض النماذج لما يعرف بجرائم الحرب التي انبثقت عنها مفاهيم سلامة امن المدنيين سيما المرأة والطفل فضلا عن اسقاطات ما يعرف بـ " العنف ضد المرأة " وحمايتها من النزاعات المسلحة ، حيث ما تزال تلك الشواهد حية ، تترجم على أنها تعنيف سلطوي ضد النساء ، بل وجرائم ضد الإنسانية بعنوان اشمل ، وبما ان حديثنا عن مجرمي واقعة الطف ، فإن الجرائم أكثر من ان يسعها هذا المقال ، إلا أننا سنذكر بعضها ونعرضها بشكل مقارن مع القوانين النافذة على الساحة الدولية ، خصوصا تلك التي ترعى المرأة وتحاول تحريرها من عقد الماضي والتخلف .

قبل ان نتطرق للقوانين الدولية بخصوص ذلك ، علينا ان لا ننسى ان القرآن الكريم كان قد ذكر بشكل تفصيلي مفاهيم التعامل الرفيق مع المرأة وضرورة أن يكون ذلك بشكل يحفظ انسانيتها ككيان خاص ، فضلا عما احتوته المنظمة الحديثية من روايات بخصوص رفض العنف ضد المرأة في كل الاحوال ، بما فيها احوال الحرب ، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام في وصيته لجيشه في معركة مؤتة (( ..... ولا تقتلوا وليدا أو امرأة ولا شيخا فانيا ولا منعزلا بصومعة ..... )) ، وغير ذلك من الأحاديث الشريفة التي حثت على ضمان سلامة المرأة من الاعتداء في زمن الحرب .

وعلى هذا ، فتّعد حادثة حرق خيام اهل بيت الحسين عليه السلام ، أول جريمة يمكن تشخيصها بشكل ملموس على انها خرقا صريحا للتشريع الألهي ، ناهيك عما تضمن ذلك من متسلسلة الضغوط النفسية والمعنوية التي مررن بها النسوة الفاطميات من قبل معسكر يزيد لعنة الله عليه ، وليس أخرها قطع الماء عنهن وأخرجهن حواسر حافيات باكيات لتبدئ بعد ذلك ظلامة السبي ، حتى وصفهن الإمام السجاد عليه السلام قائلا : ( والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلا وخنقتني العبرة، وتذكّرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي : احرقوا بيوت الظالمين ) ، أما الجريمة الثانية التي يمكن تشخيصها في ذات الحادثة ، ما وقع على عزيزة الإمام الحسين السيدة رقية عليهما السلام ، بدءا من خروجها فزعة من الخيام الملتهبة بالنيران التي التهمت جزء من ثيابها ، وصولا لسلبها مقتنياتها .

ويبقى الحديث عن السبي الذي تلا حرق الخيام ، والذي يعّد دليلا كاملا على وحشية المعسكر الأموي ، خصوصا ما استبطنه السبي من تعذيب للأسرى والمرور بهم بين الأمصار بعنوان "الكافرين" ، وانتهاء باستشهاد البعض وبالأخص الأطفال منهم كالسيدة خولة عليها السلام ومن ثم السيدة رقية عليها السلام ، ناهيك عما تضمن ذلك من تداعيات نفسية تعرضت لها النسوة وبالأخص عرض الرأس الشريف لسيد الشهداء الأمام الحسين عليه السلام وباقي الشهداء بمنظر يدمى له القلب .

الغريب في الأمر ، ورغم الادعاء بمثل التحضر والمدنية ، الا أن الجرائم الأموية هذه ما زالت تتبعنا بوضوح ، وتلاحقنا بمتوالية زمنية ، من خلال خلفها الضال من الدواعش ، مخترقين بذلك كل الشرائع والقيم الإنسانية والدولية ، بل وقد اعادتنا اعمالهم الدنيئة لمشاهد شبيهة بمشاهد الطف وجزئياته سيما سبي النسوة وإيذائهن بدنيا ونفسيا ، دون أي اعتبار لأي ميثاق دولي ، خصوصا وأنها ـ المواثيق الدولية ـ قد جرّمت المساس بالنساء والأطفال في حالة الحرب ، ووضعتهم على الحياد من ذلك ، ومنها اتفاقية جنيف الرابعة وبالتحديد من خلال متضمنات المادتين (57) و (58) من بروتوكولها الأول ، والتي نصت على بذل كل الجهود التي تكفل توفير الغذاء والدواء للمدنيين ، فضلا عن سلامتهم من خلال تجهيز مناطقهم بمقرات الاستشفاء ، سيما النساء والأطفال ، مع تقديم كل ما يجب لهن ، باعتبارهن أكثر حاجة للاهتمام ، خاصة خلال فترات حملهن وولادتهن ، عدا ما تبنته باقي مواد الاتفاقية من إلزام أطراف النزاع على إقرار ترتيبات محلية لنقل الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والأطفال والنساء النفاس من المناطق المحاصرة ، وقد منعت بعض موادها الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضي والعجزة والنساء ، وهو قريب جدا على ما أكدته اتفاقيات جنيف الثلاثة الأولى ، خصوصا ما يتعلق بإعطاء الأولوية في نظام العلاج على أساس الدواعي الطبية العاجلة وحدها ، على ان تعامل النساء معاملة خاصة .

المهتم منا بالمواثيق الدولية الراعية لذلك ، يرى ان القانون الدولي الانساني كان قد كفل جملة مبادئ اساسية منها الحفاظ على روح التعاليم السمحاء ومنها وجوب معاملة النساء بكل احترام ، وان يتمتعن بالحماية بشكل خاص ، فضلا عن ضرورة انشاء مناطق آمنة لهن وبالأخص الحوامل منهن ، ناهيك عن تخصيص اماكن احتجاز منفصلة لأسيرات ومعتقلات الحرب على ان يوكل الاشراف عليهن بل وتفتيشهن الى نساء ايضا ، الا أن الملاحظ ـ بعد كل هذه الجهود الجبارة من المجتمع الدولي ـ عدم تأثير هذه النظم والتشريعات في الحد من مؤشر الاعتداء على المراة خصوصا في حالة الحرب .

نقول ذلك واسم عقيلة الطالبيين السيدة زينب الحوراء عليها السلام سيبقى في صدارة قائمة النسوة اللواتي تعرضن للعنف على مدى التاريخ ، وفي الوقت ذاته سيسجل التأريخ بأن المعسكر الأموي يبقى هو في طليعة بل ومؤسس هكذا نوع من الجريمة ، مما لم تألفه المجتمعات المتحضرة فما بالك بالتي تدعي انتماءها للدين زورا وبهتانا .

مآثر طالب