يتفق الجميع على ان العائلة نواة المجتمع ، وأنها المسؤول الاول والأخير في تطور ورقي المجتمعات من عدمه ، إذ إن من شأنها ان تبنيه جميلا قويا أم تصيره هرما قبيحا .

ولا يختلف اثنان في أن هذه النواة تبتنى على نوية اهم منها وسابقة عليها ، وهي اختيار الشريك المناسب ، إذ ان من اهم مقومات بناء الأسرة المثالية وضمان نجاحها ، يكمن في الاختيار الموفق للشريك ، الا ان الأمر يبقى محتاج لفهم اخر يستتبع هذا الاختيار ، الا وهو القناعة .

صحيح ان القناعة مهمة في جميع تفاصيل الحياة ، الا أنه اهم جدا في الحياة الزوجية ومن ثم الأسرية ، إذ تكاد ان تكون اهم من تطابق الدم لدى الزوجين الذي يعده المختصون مرحلة " قبول ـ رفض " في تأسيس الكينونة الزوجية " الإسرة " .

وكما نعلم ، فان القناعة تحتاج الى تعاون وتفاني كبيرين من كل الاطراف ، بل والى رياضة روحية دائمية تكون ضابطة لعدم حدوث اي ترهل في العلائق الزوجية ومن بعدها الأسرية ، وبالتالي فأنها بادرة الخير التي تفتح للأسرة افق السعادة ورحباءها ، والامثلة والادلة على ذلك كثيرة وكبيرة .

للمتتبع منا ، للتركيبة الاجتماعية والأسرية وبالأخص من يمتلك قراءات في علم النفس وعلم الاجتماع ، يلحظ جليا افتقار مجتمعاتنا الاسلامية والعربية على وجه الخصوص الى تلك الخصلة الحميدة في الآونة الأخيرة ، اذ ان اغلب حالات الزواج تبتنى اليوم على المتغيرات وليس الثوابت ، ومنها المصالح المادية ، إذ يتم تقييم الراغب بالتزويج على اساس امكانيته المادية قبل التزامه الديني والاخلاقي ، ضاربين بذلك الحديث النبوي الشريف (( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )) بعرض الحائط .

لم ينتهي الامر عند هذا الحد فحسب ، بل ان بعض الشباب يضع في اولويات اهتمامه ، الحالة المادية للفتاة التي ينوي الزواج بها، وبهذه الحالة ستكون حياة زوجية مبنية على امور دنيوية هشة ، قابلة للانهيار بمجرد تعرضها لأبسط هزة ، وسيخسر حينئذ كلا الطرفين ، الشيء الكثير ، ويزداد الأمر سوء اذا كانت الوشيجة بينهما موثقة بوجود احباب الله ـ الأطفال ـ ليكونوا بذلك اكبر الخاسرين في هذه القسمة الضيزى ، ودون اي ذنب .

لذا ، فأن للطمع الدنيوي اثاره السلبية التي لا تحصى ولا تعد ، الا أنها تكون اكثر فداحة اذا وجدت ـ الأثار السلبية للطمع ـ في ثنائية الزواج ، فعندما تغيب القناعة عند الزوجة وتكثر طلباتها ومتطلباتها ، ليدفع بذلك رب الاسرة العبء الأكبر مجبرا ، مما قد يدفعه الى توفير الرزق بغض النظر عن مصدره ومشروعيته ، وهي مشكلة لها ما لها من اسقاطات كارثية على الحياة الزوجية بشكل كامل والأطفال على وجه الخصوص ، سيما اذا اختلط المال الحلال بالمال الحرام ، ليحال بعد ذلك العش الزوجي الى حياة بلا طعم ، فثمة زوج منشغلا بتوفير طلبات الزوجة ، وهي منشغلة بإشباع رغباتها المادية ، ليفتقر بذلك الأطفال الى القناعة ، كنتيجة حتمية لما اعتاد الأبوان عليه امامهم ، تطبعا وتأسيا ، حتى صيرت الأسرة كيان مفكك وهو ما سيكون عبئ ثقيل على المجتمع مستقبلا .

وبخصوص ذلك ، لا يفوتنا ـ كمجتمع اسلامي ـ ان نستذكر الشواخص العملاقة والنماذج المثالية التي تركها لنا اسلافنا ، خصوصا تلك التي نموذجت على انها ناجحة ومثالية بعد ان توافرت فيها مثل الاختيار الملائم المشفوع بالقناعة ، ولعل خير مثال على ذلك هو زواج امير المؤمنين علي عليه السلام من سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام ، فيذكر أن امير المؤمنين عليه السلام كان قد ذهب لرسول الله صلى الله عليه وآله وهو في منزل زوجه أُمّ سلمة ، فسلّم عليه وجلس بين يديه ، ليبادره النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قائلا : " أتَيْتَ لِحاجَة ؟ " .

فقال الإمام علي عليه السلام : " نَعَمْ ، أتَيتُ خاطباً ابنتك فاطمة ، فهلْ أنتَ مُزوِّجُني ؟ " .

قالت أُمّ سلمة : " رأيت وجه النبي صلى الله عليه وآله يَتَهلّلُ فرحاً وسروراً ، ثمّ ابتسم في وجه الإمام علي عليه السلام ، ودخل على ابنته الزهراء عليها السلام ، وقال لها : " إنّ عَليّاً قد ذكر عن أمرك شيئاً، وإنّي سألتُ ربِّي أن يزوِّجكِ خير خَلقه ، فما تَرَين ؟ " ، فسكتت ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول : " اللهُ أكبَرُ، سُكوتُها إِقرارُها " ، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال : " يا محمّد ، زوّجها علي بن أبي طالب ، فإنّ الله قد رضيها له ورضيه لها " .

وبخصوص القناعة المحمدية العلوية الفاطمية ، فقد اختلفت الروايات في قدر مهر الزهراء عليها السلام ، الا ان المشهور أنّه كان خمسمائة درهم من الفضّة؛ لأنّه مهر السنّة، كما ثبت ذلك من طريق أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، والخمسمائة درهم تساوي (250) مثقال من الفضّة تقريباً .

اما عن جهازها عليها السلام فقد جاء امير المؤمنين عليه السلام بالدراهم ـ مهر الزهراء ـ ووضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأمره صلى الله عليه وآله أن يجعل ثلثها في الطيب ، وثلثها في الثياب ، وقبض قبضة كانت ثلاثة وستين درهما ، كانت لمتاع البيت ، ودفع الباقي إلى أُمّ سلمة ، وقال : " أبقيه عندك " .

هذه هي حياة اعظم شخصيات في التاريخ ، فحيث القناعة والبساطة ، كانت الأرومة المقدسة ، نماذج ومثالات يحتذى بها ما كان للحياة من بقية  .

وخلاصة القول ، ان سر الحياة الزوجية وكنز السعادة فيها يكمن في القناعة ، لذا فحري بأولياء الامور ان لا يضعوا اهتمامهم في الحالة المادية لمن يرغب بالتزويج منهم ، ولينصرف تركيزهم الى ما يحمله من وعي وتدين وخلق ، كون ذلك هو ما ستحتاجه ابتهم وأسرتها فيما بعد كي ، وهو ما يضمن ان تكون الأسرة مؤمنة ومثقفة بثقافة اهل البيت عليهم السلام .

وحري كذلك بالزوجة ان تراعي الحالة المادية لزوجها ، وان لا تحمله اكثر من طاقته ، ولا بأس من ان يتعاونوا فيما بينهم بلازمة القناعة ، و ليتوكل الزوج على الله في سعيه وأن يجاهد فيه ، تحصيلا للحياة الكريمة له ولأسرته . 

رواد الكركوشي