قراءات أولية

 

للمطّلع منا على النتاج الفكري والثقافي، غثه وسمينه، ومنحنيات صعوده وتناميه فضلا عن تشظي جزئياته ، يلمس ببصر من حديد إن المرأة وموضوعها بمختلف إشكالياته وجدلياته، بات الشغل الشاغل للكثيرين ممن يرى بنفسه الأهلية دون وجه حق للخوض في لجاجته بين مشرّق ومغرّب، حتى اصبح موضوعها ـ أي المرأة ـ مادة دسمة لحالة التثاقف والتماهي الحداثوي في مجمل الحركة المعرفية والإنتاجية الفكرية خصوصا الأبستمولجية منها، نظرا لكون منطقتها ـ المرأة ـ ما زالت عصيت على المعالجات الحقيقية فضلا عن كونها ثرية المحتوى وجدلية المضمون جذابة للانتباه مما جعلها مثار اهتمام وأخذ ورد .

كما أن الملحوظ من ذلك إن جل من تبنى هذا الموضوع ـ سواء كان على صعيد الطرح او المعالجة ومن أي منظور كان (سيسيولوجيا ، أنثروبولوجيا ، بل وحتى من توسع منهم واهما بإدخال الميثولوجيا (علم الأساطير والخرافات) فيها ، قد عالجوا الموضوع من زوايا محددة وضيقة احيانا ، مبتعدين بذلك عن موشور الحقيقة التي يمكنها توحيد مستويات النظر لها، فكان ذلك مدعاة لأن تعج الساحة الدينية والثقافية والفكرية من محاولات الواهمين في المعالجة ، مستغلين بذلك طرح ما اسموه مشاكل وهموم المرأة ومعاناتها ومساواتها فضلا عن حقوقها وواجباته، وهم بذلك قد صيروا نتاجاتهم دفعة اخرى في دحرجة الكرة الثلجية لهمومها .

فبقدر ما نجده من تبخيس للمرأة اكسيولوجيا (قيميا) من خلال عرضها سلعيا وتوظيفها كماليا كسكرتيرة مثلا او كواجهة إعلانية لمنتوجات غبية ورخيصة او عسكرتها احيانا ومتضمنات ذلك من توظيفها جسديا، نجد في الكفة الأخرى تغييب ووأد لها بطريقة عصرية، بتوظيف مفاهيم التحريم والممنوعات ، وبذلك فقد ضُّيعت المرأة تحت شعارات رنانة كأزمة المرأة والعنف ضدها واشكالية المرأة والمجتمع، حتى بات ثمة من يبخسها من مصدر قوتها من خلال تسطيح مفردة الحريم مثلا والتي تعني الحرمة بكل ما تعنيه الكلمة من مآلات القداسة كحرمة الكعبة الشريفة او الأضرحة المطهرة واعتبار ذلك ضدها وليس لها، حتى باتت هذه الشعارات فضلا عن المنادين بها يسوقون مآربهم من خلالها الا القليل منهم .

وللمتتبع منا يلمس حقيقة مرة مفادها ان هذه الشعارات وهذا الكم من الطروحات والمعالجات ما زاد المرأة الا هما فوق همها ، إذ أن واقع المرأة ما زال بحالة تردي ان لم نقل أنه في حالة اسوء مما كان .

فلا الحضارة المادية استطاعت السمو بالمرأة خصوصا بعد سقوطها في مستنقع التوظيف الجسدي للمرأة دون الروحي تحت عناوين براقة كالحرية والتكافؤ بين المرأة والرجل ، ولا الحضارات الدينية وشبه الدينية كالكنيسة والكنيست الأم والايدولوجيات ذات الطابع اللاهوتي وثقافة المعابد الخاصة بالأديان وشبه الأديان، بل حتى ممن وّظف الإسلام اسم لسلوكه المشين كالسلفية والوهابية بعد توظيفهم المرأة غرائزيا وليس اخرها جهاد النكاح .

لذا فأننا نجد أن الزخم الكبير من الموضوعات والأقلام والأفكار التي قيلت في المرأة لم يرتق لمستوى أقناعها وتذليل انكسار شعورها بأنها مخلوق من الدرجة الثانية إذ ان عقدة الانهزام الداخلي فيها ما زالت مسيطرة عليها بل وأنها تجترها أنى ذهبت لتعكسها بردود فعل غير منضبطة ولا محسوبة مما يجعلها أداة اكثر قبولا بل واكبر فعالية من الأخرين في توظيفها لنفسها بغير الخلقة السليمة والإنشاء السوي  .

وربما من يعترض على وجهة النظر هذه ويتدرع بأن ساكنات اسرته من النساء لم يعانين مما ذكر وفي ذلك غفلة كبيرة منا نحن عالم الرجال عن ما تمتاز به المرأة من هبة سماوية تتمثل في احساسها المرهف الذي تستطيع من خلاله تكليف مجساتها العاطفية في استقراء محيطها الزوجي والأسري والمهني وبالتالي التكيف معها في وقت تعاني فيه صراعات داخلية تكتمها بسجن الطباع والأعراف والتقاليد والتركيبة الفسيولوجية والسيكولوجية فيها .

لذا وبعد هذا المسار البشري الطويل في معالجة وضعية المرأة سواء ما كان منه عمليا كالسطوة التي افترضتها القبائل الطوطمية للمرأة عندهم مثلا ومجتمعات الاندامان ( المجتمع الامومي ) والدومينا والكوستوس ومن بعد ذلك المرأة المشاعة وبعدها افتراضات الحياة العصرية من مساواة مادية بين الرجل والمرأة ( اقصد الجسمانية منها ) مما سمح لها بمزاولة ما يزاوله الرجل من اعمال ومهن، اخرها حقها في تغيير جنسها او اختيار شريكة حياة خاصة بها !!! .

بعد هذه النتائج التي افرزتها التجارب البشرية بترجمتها المغلوطة لأصل الخلقة والإنشاء السوي الذي قصده المنشئ والمعيد جلا وعلا ، لذا فثمة اسئلة تلح بخاطر المتتبع منا لها :

  هل حققت المرأة ذاتها من خلال حزم الأطروحات البشرية بغض النظر عن مصدرها ؟

  ما هو سبب النظرة السلبية لطبيعة المرأة واحتياجاتها ؟

ما هو السبب الحقيقي في القراءة المغلوطة للنص الديني الذي يعالج موضوعة المرأة ؟

هل موضوع حقوق المرأة منفصل عن واجباتها ام أنهما شيء واحد بوجهين ؟ أذ ثمة من يرى ان الحقوق أنما هي نتائج حتمية لواجباتها والأخيرة إنما هي مقدمة للحقوق .

اسئلة تحتاج لإجابات بحجم مؤلف او بحث او اطروحة ، سنحاول ان نعرض عليها في مقالات اخرى ، ولكن وبقدر تعلق الأمر بالمعالجات في المجتمعات الاسلامية ( الدينية والمدنية ) من غير مذهب الشيعة ، فأنها لا تعدو واحدا من خطين اثنين حسب أيديولوجياتها بين معتدل و متطرف، فبين من اعتبرها كيان مستقل لابد له من صراع وعراك لإثبات نفسه وبالتالي فقد زجها من خلال ذلك في معتركات الحياة التي غلبت اصل خلقتها النفسية والجسمانية وهم بذلك قد وظفوها حسب ما يسمى بالحضارة المدنية بغض النظر عن مصدرها وصّيرت المرأة من خلالها الى كائن هجين انتفاعي، سالبة بذلك روحيتها على حساب جسدها، في حين ان الخط الثاني كان قد توسل بالخطاب الديني الذي عالج ملفة المرأة ولكن بشكلها المتطرف إذ أنه وظفها للتسخير والخدمة وصولا لتوظيفها جسديا للإباحة بعد أن اعطف مآربه بتفسيرات وتأويلات مغلوطة مستفيدا من عاطفيتها وحساسيتها وبالتالي اسكنها جنة افتراضية من خلال سجنها بسجن الجسد فقط ومصادرة حريتها في التعليم مرة والانتخاب اخرى وسياقة السيارة ثالثة والقائمة ليس لها أخر .

  بحسابات القيم المثلى، فأن للمرأة قيمتين اثنتين، الأولى منها قيمة ثابتة تتثمل في اصل الخلقة وحالة التمايز بينها وبين قرينها الرجل، وبالتالي فأن الأمر لا يمكن اعتباره منازل ومراتب إنما الأمر هو أدوار ليس الا، وفي هذا الصدد فأن ثمة مقاربة أدبية مع ما فيها من جدليات شرعية، فأن في المرة الإنشائية الأولى كان لوجود الذكر (أدم عليه السلام) من غير انثى (حواء) أنما بالنشأة الخالقية (مباشرة من الخالق) وليس
التخليقية ( نقصد بالتخليقية من خلال الوضع الطبيعي لاستمرار النوع من خلال الولادة )، في حين أن المرة الإنشائية الثانية بخصوص نبي الله عيسى (عليه السلام) فكان تخليقيا لكن من غير الطريقة المعتادة (الولادة) وبذلك فأن الله قد اكرمها بتخليقية تساوي الخالقية ، ويبقى كل الأمر خالقيا .

اما القيمة الثانية فهي متغيرة ( بحكم تغير الظرف الزماني والمكاني)، تحددها طبيعة المتغيرات والظروف المحيطة ومثالها العمل والحضورات في غير البيت وما الى ذلك .

وعليه، فبقدر ما يضمن ويحمي امتيازات المرأة كجنس ونوع، تكون قيمتها العظمى، وهذا لا يتحقق الا بعد المزاوجة بين ما ذكر من قيمتين ، ومن هذا وذاك وخلاصة لما كنا قد ذكرنا في اعلاه بخصوص تجارب البشرية والتفسيرات المغلوطة للإطروحة الإلهية بعدما اعتمدت غير منهلها الصافي، فصار جليا وواضحا أن هذه المزاوجة وهذه التوأمة بين هاتيك القيم لم تتحقق لحد الآن ولا يمكن ان تطبقها تطبيقا حقيقيا الا من خلال الأطروحة الإسلامية الصافية عديلة القرآن المتمثلة في منهج أهل بيت النبوة، إذ إن نمذجة الزهراء فاطمة (ع) ومن بعدها الحوراء زينب (ع) ومن خلالهن باقي فواطم وعقيلات اهل البيت يعطينا قراءة منسجمة وواقعة لقيمة المرأة، إذ هم فقط ـ اهل البيت ـ من استطاعوا ان يزاوجوا بين قيمتها الثابتة (نوع وجنس) وقيمتها المتغيرة (الظرفية ) ، ولنا في هذا السبيل أن نعيد قراءة ملف السيد الحوراء خصوصا خلال تنشئتها في البيت العلوي ومن ثم القيمة الظرفية لوجودها وتمثيلها للسيف الإعلامي بنصرة اخيها الشهيد ( عليهما السلام ) .

ومن هذا نكتشف أن القراءات الإسلامية المغلوطة حول المرأة لم يكن سببها النص الديني (قرآن وسنة) أنما الإشكالية في فهم هذه النصوص وتجييرها حسب المنافع التي تعود على الفكر الذكوري وبمنتهى الأنانية .

والخلاصة ، أننا اذا اردنا إعانة المرأة والانتصار لها في تحقيق قيمتها العظمى، فليس لنا الا أنتهاج رؤية اهل البيت ( عليهم السلام ) في التعاطي معها لما امتاز به هذا التعاطي والتعامل من نظرة شمولية على الظرف، الزماني منه والمكاني ، وبهذا فأنها شكلت لنا جدران واقية من دخائل الأفكار التغريبية التي تحاول سحب البساط من المرأة المسلمة .

وفي هذا الصدد ، لابد لنا من أدراك ان الجدة والحداثوية في الأفكار لا تعني المواكبة والتطور دائما فما يعد بالي من رؤى أنما جاء ثباتها لجدواها وقيمتها وتجريبها حد الثبات، في حين ان التجديد الدائم أنما يعني تجربة فاشلة لهذه الرؤية كونها لم تلقى النجاح وبالتالي تجريب غيرها وهكذا الى ان نصل بشكل لا شعوري لما يسمى بالغزو الفكري بعناوين براقة كالتطور وآليات جذابة وهي في حقيقة الأمر دس للسم في العسل ، وهو ما يلزمنا أن نتوخى الحذر بالتعامل مع الحداثوية في ملفة المرأة وعصريته .

وأخيراً ، فقد أردنا من خلال هذا المقال أن نصل الى ان توالي السقطات التي منيت بها الحضارات المادية، رأسمالية كانت ام اشتراكية بل وحتى ما بينهما، وما لازم ذلك من زيف في طبيعة المنتج الديني الكنسي منه واليهودي فضلا عن الجزء الأكبر من الإسلام (الطرح المزيف منه) ، وما يمثل ذلك من طروحات دينية بقراءة بشرية صرنا اما انتخاب الطريق القويم في ذلك وهو الأطروحة الدينية الإلهية وخطها الحنيف المتمثل بالسلسلة الذهبية للدين والمتمثلة برسول الرحمة ومن خلاله بيت العصمة والمعصومين (عليهم السلام ) ، على أمل ان نتبنى ـ بعد هذه القراءات الأولية ـ  ملفة تجهيل وتغييب المرأة الذي تبنته الإطروحات الأخرى قبالة القراءة العصموية لقيمة المرأة من خلال سلسلة مقالات قادمة ان شاء الله .  

 

 الكاتب / بلاسم الشمري